شهر رمضان الطاقة الإيمانية المتجددة.................بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي 

شهر رمضان الطاقة الإيمانية المتجددة.................بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي 

شهر رمضان الطاقة الإيمانية المتجددة

بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي 

 

ربط الإسلام أتباعه بمواسم عظيمة يعرض الله فيه نفحاته الكريمة، ويسعهم برحمته العميمة، وعادة ما تتغير شكليات حياة الإنسان المسلم أوان حلول هذه المواسم، وكأن الشارع الحكيم يقول لهؤلاء المؤمنين: فكما تتغير حياتكم الشكلية فليكن فيكم تغير موضوعي، التغير الموضوعي الذي يتمحور حول رقي الإنسان وسموه وخلاصه من ربقة الشهوة وأسر النفس الأمارة بالسوء، ووحي الأطماع التي تسكن النفوس البشرية.
هذه المواسم محطات وقود إيمانية تزود الإنسان بما يسمو بروحه ويعلو بهمته عن أوضار الشهوة وأوحال الهوى وأقذاء الحياة وحضيض الأمل والانشداه بالراهن من الحياة الدنيا، فالصلوات الخمس والجمع والجماعات والزكاة وصيام شهر رمضان والحج ونوافلها تجعل صاحبها في حراك دائم مع عقله وقلبه، وتفتح له أبواب الطمأنينة والسعادة والإيمان، وتسمو بحاله من الانغماس في تعقيدات الحياة وشهواتها إلى رحابة الآخرة ونعيمها.
إن شهر رمضان لمن أعظم المواسم والمحطات التي يخوضها المسلم بصدد طهارة نفسه وإعادة تأهيلها وبرمجتها بما يتسق وفطرتها التي فطر الله الناس عليها، هو بمثابة دورة تدريبية محسوسة فيها تُقمَع شِرّة الإنسان وتحاصَر أطماعه، وتبدد غيوم جهالاته، ويزكو قلبه وتصفو نفسه، وتحلّق روحه عالية في سماء الفضيلة والإيمان بعد أن ظلت عمرا وهي متسخة بالوحل البهيمي، ومنشغلة بالصراع الدنيوي، ومحاصرة باللوثات المتتالية التي تكدّر الأفئدة وتعمي البصائر؛ وحينما يحل شهر رمضان تتنزّل ألطافُ مَنْ له الخلق والأمر، مَنْ خلق الخلق عالما بما يصلحهم فتتعلق بها أنياط قلوب المؤمنين، وترتقي بها أفئدة المستبصرين لتتمرد على الطباع الكريهة، وتتحرر عن تأثير الشياطين.
إنه حالة من الفيض الإلهي الذي يعطيه الله لعباده ليكسبوا مزيدا من التحرر عن العبودية لغيره من الشياطين والنفس والهوى والدنيا والشهوات، فيخلص إيمانهم، وتستقيم طريقتهم، وتزكو أعمالهم، يجوعون لترقى أنفسهم عن شهوة البطن، فلا تضطرهم لأخذ أموال الناس بالباطل للتوسع في المأكل والمشرب، لترتفع أنفسهم عن ذواتها وتخرج من دوائرها الأنانية، فيشعروا بجوع الملايين من بني البشر وعطشهم وفقرهم وحاجتهم، وهم يقتاتون الجوع، ويضاجعون الخوف، ويأنسون إلى أعدى أعاديهم، فتتحرك فيهم نخوة الجود والعطاء والبذل والتضحية والفداء.
فيه يمتنعون عن المنكرات ويتمرنون على ذلك شهرا من الزمان فتكتسب حياتهم نسيم الصفاء الإيماني الفواح حيث لا منكر فيها ولا فحشاء، وفيه يمتنعون عن قول الزور فتصدق ظواهرهم وبواطنهم، ويقتربون من الحقيقة فيكرهون الزيف في كل أمورهم، وفيه يتعودون على الانضباط فيتعلمون معنى الالتزام وأهمية التوقيت، فلا تجد عند تلميذ مدرسة رمضان خُلْفًا في وعد، ولا نقضا لعهد، وفيه الصلاة والقيام والنوافل التي تورثهم قوة الاتصال بالله عز وجل طوال اليوم والليلة، وحينئذ تنفتح أنفسهم على بارئها فلا سلطان عليها غير سلطانه، وفيه الامتناع عن الشهوات فيقوى سلطان العقل لتتعزّز قوة الحجة وسلطان الضمير وقوة التحكم في الجوارح والأفعال والأقوال.
إن شهر رمضان بظلاله الوارفة، ومعانيه الندية المخضلّة، وجلاله العظيم، وخيره العميم يغطّي مساحات واسعة من المسلمين، ويعطيهم أعظم معنى هم أحوج ما يكونون إليه اليوم، ألا وهو شعورهم بالوحدة الإيمانية والوحدة الشعائرية، والوحدة التعبدية، والوحدة المصيرية، شعور قوي فعال ينبلج متجدّدا مع فجر كل يوم وغروبه، ويبين أنها أمة واحدة ذات نهج واحد ورسالة واحدة ودين واحد وشعائر واحدة، فيحزن المسلم لمصاب قومه المسلمين، ويفرح لسعادتهم ونجاتهم في دينهم ودنياهم، حينئذ تحيى فيهم المشاعر الميتة المجدبة بغيث الانتماء الصادق الحي والخصب.
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن الذي به ليلة القدر خير من ألف شهر، الذي حثّ الله عز وجل على التدبر فيه وإعمال احكامه يجب أن يأخذ حقه في الفرد المسلم والجماعة المسلمة بإعادة صياغة عقولهم وأفكارهم ومناهجهم ومعاملاتهم على النحو الذي يريده الله كاملا غير منقوص، إنه إحدى الطاقات المشعة التي تزود المؤمن بشحنات عظيمة تيسّره للانسجام مع مراد الله، والتحليق في عالم السعادة والسمو الحقيقي، وحين يتفيأ المؤمن ظلال القرآن في شهره الكريم إنما يمير من ينبوع الكرامة الثرّ، ويتزوّد من مصدر الهداية الحقيقي الذي لا ضلال فيه، ويمشي على سنن المنهج المستقيم الذي يصل بصاحبه إلى رضوان الله، والقرآن الكريم لا يريد من صاحبه أن يكون نصف مسلم أو ربعه، بل إيمانا كاملا مكّملا في جميع الجوانب، ولهذا سعد امرؤ جعل كتاب الله إماما له، ومصدر هدايته، وغيث حياته, ونور بصيرته، يحيى بإحيائه ويسير في دربه.
حين يحلِّق الإنسان في عالم رمضان القدسي لا يحصر نفسه في جانب من جوانب الحركة الإيمانية، ملغيا جوانب أخرى لا تقل أهمية ومسؤولية، فهو لا يهتم بنفسه بالقدر الذي يتناسى فيه دينه أوأمته، لا يهتم بشعبة من شعب الدين ويتناسى أخرى، بل يتوزع عليها جميعا، ولا يهمل جانبا منها، ويتحرك في كل اتجاه في حركة دؤوبة مستمرة تدور حيثما دار الحق، يحيي نفسه بالعلم النافع، ويزكيها بالتقوى والأخلاق الفاضلة، ويحملها على اقتفاء المعاملة الإسلامية الفاضلة مع الآخرين، ويحمل همّ الدعوة إلى الله وإرشاد المخلوقين إلى دين رب العالمين، ويهتم بأمور المسلمين، ويعتني بشؤونهم، وينصر ضعيفهم، ويكون عونا على ظالمهم، ويبتغي السعادة والكرامة لهم، وينشد الحرية والمحبة والمجد فيهم، وفيه تحلِّق نفسه عالية مرهفة الإحساس نابضة الشعور بأحوال المسلمين وكيف تتداعى عليهم الأمم الكفرية وتثور فيهم العصبيات الدينية والمذهبية والسياسية بعد أن أضاعوا سبيل مجدهم، ودليل كرامتهم، ووثاق وحدتهم، ومنهج خالقهم، فتخطفتهم الأهواء، واستذلهم أوغاد هذا العالم.
في شهر رمضان ترتفع النفس عن دنس المعصية؛ لانشغالها بعظيم الهدف وكريم الوِجهة ونبل المقصد، وفيه تسمو النفس عن عبودية الهوى لاتصالها بالمعبود الحق الذي لا إله إلا هو، وفيه تتقدّس المشاعر لتخرج من طور البهيمية التي ارتكست فيها من خلال الإيغال في الشهوات إلى سمو الروح وجمال الفكرة، فيه يشعر المسلم بأنه مأمور من قبل خالقه المنعم عليه الذي يجب امتثال أمره، فتكون نفسُه أطوعَ لأمره وأقربَ إلى الخوف من نهيه وزجره، فلا تثقل عليه طاعة، ولا تتحبّب إليه معصية.
فيه يتعلم المسلم أهمية الأوقات الثمينة التي هي كريمة على ربها وتتضاعف فيها الأعمال، فيشحنها بما يرضي الله عبادة ومعاملة، وسوف لن يضيعها في مقامرة إبليس على بضاعته الفاسدة الكاسدة، التي تظهر على شاشات المسلسلات والبرامج الخليعة والماجنة؛ لأنه مشغول بالمتاجرة مع الله وأرباحه الغالية العزيزة في الطاعات والعبادات والدعاء والذكر وتلاوة القرآن وتدبره وجهاد الظالمين ومقارعة المستكبرين والصيام والقيام والدعوة إلى الله عز وجل؛ وكيف لعاقل يعاكس المعاني السامية لشهر رمضان التي هي القناعة والزهد والارتباط بالله والانتهاج بنهجه وسمو النفس ورقي الطبع ليذهب إلى شحن نفسه وتلويثها بالمكدّرات والملهيات وإضاعة الأوقات واللهو عن الذكر والصلوات.
هذا الشهر المنحة الربانية والنفحة الإلهية يجب أن يأخذ حظّه من حياتنا، وأن يكون منطلقنا إلى ترتيب أفكارنا وأوضاعنا ومعاملاتنا وأولوياتنا على النحو الذي يريده الله منا، حتى نعود إلى حياتنا الحياة الرحبة بالإيمان، المفعمة بالرحمة والإحسان، المحفوفة بالسعادة، والمحشودة بالكرامة،

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمدلله رب العالمين.

دخول المستخدم
القائمة البريدية
استطلاع رأي
ما رأيك في موقع المجلس الزيدي
مجموع الأصوات : 0
صفحتنا على الفيسبوك
جميع الحقوق محفوظة 2024