القيادة العامة من خلال القرآن الكريم والرسول العظيم

القيادة العامة من خلال القرآن الكريم والرسول العظيم

بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي

القيادة العامة من خلال القرآن الكريم والرسول العظيم (1)

هذه حلقات كتبتها بمناسبة المولد النبوي الشريف لهذا العام تتحدث عن القيادة وأهم الصفات النموذجية التي يجب أن تتوفر في أي قيادة تتصدى للولاية العامة، مع الإشارة إلى بعض النظريات الوضعية، وسنتحدث عن تعريف القائد، وعلاقة القائد بالوحي، والصفات القيادية كما صورها القرآن الكريم، وأهم ما ميز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن غيره من القيادات.

القائد في العلوم الإنسانية

تدور تعريفات العلوم الإنسانية للقيادة حول فكرة "التأثير في الناس وتوجيههم لإنجاز الهدف"، وهو تعريف لا يتناقض مع التعريف الذي يمكن استيحاؤه من القرآن الكريم، ولكن يختلف في كيفية التأثير والتوجيه وطبيعة الأهداف ونوعيتها؛ وهو ما يستدعي الوقوف والتوضيح والتفريق بين تعريف العلوم الإنسانية والتعريف الذي يمكن مقاربته من خلال القرآن الكريم وصحيح سنة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

القائد عند (ميكيافيلي)

نصح ميكيافيلي (الأمير) الإيطالي لكي يحقق هدف (توحيد إيطاليا) أن يستخدم كل الوسائل الممكنة لتحقيق هذا الهدف، والتي منها التلوّن والغدر والخداع والخسة والدناءة وقتل الأبرياء، وحثّه على الصفات التي يحمدها الناس كالوفاء والكرم والشجاعة ولكن إذا اقتضى الأمر أن يمارس عكسها فليفعل، وقيل: إن ستالين وموسوليني وهتلر كانوا يتتلمذون على كتاب (الأمير) هذا لميكيافيلي؛ ومن الواضح أن ما تمارسه العقلية الغربية الحاكمة الآن من اعتبار مصالحها المادية فوق كل اعتبار إنما هو ترجمة لكثير مما ورد في هذا الكتاب؛ وعدوان التحالف العالمي الصهيوني الأمريكي السعودي شر دليل على عشعشة هذه الأفكار البراجماتية النفعية المادية في عقول قادة العالم اليوم؛ هاهم يشنون الحروب ضد الأبرياء المسالمين ويتسببون في مقتل مئات الآلاف منهم لمجرد الرغبة في تحريك مصانع التسليح الحربي، والحصول على المكاسب المادية.

إذن يجب التعرف على كيفية التأثير والتوجيه، وطبيعة الهدف المراد إنجازه، والتساؤل عما إذا كان يلتزم القيم والأخلاق.

ينسحب اختلاف النظريات السياسية حول أي النظم السياسية أجدى وأنفع في القيادة على وضعية القائد نفسه في ذلك النظام، فأنصار النظرية الشمولية الديكتاتورية يخالفون أنصار الديمقراطية، وأنصار الملكية يتميزون عن الجمهوريين، والقائد في أي من هذه الأنظمة يخالف القائد في النظام الآخر

القائد ومرجعية الوحي

تختلف المعارف الإنسانية حول الصفات التي يجب أن يكون عليها القائد، ومع ذلك فإنها حتى في حالاتها المتطورة والإيجابية تظل نظرتها قاصرة وتعالج الحياة من جانب على حساب آخر، فالقائد الفذ بحسب تصورات القوميين لا يمكن أن يكون أمميا، والقائد بحسب الوطنية السلبية التي تنتقص من حقوق الآخر هو كذلك لا يمكن أن يكون إنسانيا، وأي قائد لا ينطلق من مرجعية الوحي، والذي يتمثل اليوم في القرآن الكريم فإنه يتجاهل أهم مرجعية يجب أن ينطلق من خلالها؛ ولا بد أنه سيكون لديه تقصير كبير، وقصور عظيم، ومخالفات جسيمة للفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ فالله الذي خلق الخلق هو أدرى بشؤونهم وما يصلحهم، وحين يرسم القائد المتجاهل للوحي أهدافه فلا بد أن تكون قاصرة ولا تحيط بكل شيء علما، لكن القائد المنطلق من الوحي إنما يتحرك في إطار المنهج الإلهي الذي اشتمل عليه القرآن الكريم وصحيح سنة الرسول الكريم؛ إنه الله مَنْ وضع هذا المنهج، الذي خلق الخلق ويعلم ما يصلحهم، يقول الله تعالى: (ألا له الخلق والأمر)، (ومن أحسن من الله حكما لقوم يؤمنون).

الوحي هو الضمانة الوحيدة من الانحراف والتقصير والقصور لدى أي القيادات، حيث يضمن عدم الوقوع في المخالفات المرجعية والفكرية والمنهجية، كما يضمن ضبط هذه القيادات برقابة روحية ذاتية اتضح أنها أقوى الرقابات الدائمة التي تحسِّن الأداء وتحافظ على أداء السلامة.

ورد في القرآن الكريم صنفان للقادة فمنهم قادة يدعون إلى الخير ويمتثلون المنهج الإلهي ويمضون على هديه، يقول الله تعالى عنهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73)، وهناك صنف من القادة يضلون أتباعهم، ويهلكونهم، ويحلونهم دار البوار (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار)، ويقول تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون).

ولعل القرآن الكريم وإن تحدّث عن قيادة المنحرفين عن خط الرسالة الإلهية، وحمَّلهم مسؤولية اختيارهم السيء، لكنه حين تحدّث عن القادة النموذجيين تحدّث عنهم بحسب وظائفهم، ومهماتهم التي ينطلقون للعمل فيها؛ فهم الهداة، والقدوة، والآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والفاعلون للخيرات، والمستنبطون للأحكام في القضايا المتجددة، .. إلخ؛ الأمر الذي يشير إلى أن القرآن الكريم لم يعن بالشكليات والعناوين بقدر ما ركز على الوظيفة الإيجابية التي يجب أن يؤديها القائد.

صفات قيادية متفق عليها

هناك صفات وسمات متفق عليها بين القرآن الكريم وفلسفات المفكرين والمنظرين مما توصّلت إليه عقولهم، ومنها الشعور بأهمية الرسالة التي يتحرك القائد من أجلها، والثقة بالقدرة على العمل، والذهنية الفذّة والخصبة التي تزوِّد صاحبها بخيارات متعددة، ومنها الشخصية القوية، والإخلاص، والنضج الواعي، والقدرة الإدارية، والطاقة والنشاط، والحزم والتضحية ومهارات الاتصال والتخاطب.

==

القيادة العامة من خلال القرآن الكريم والرسول العظيم (2)

القائد النموذجي على ضوء الهدي الإلهي

هناك صفات يمكن أخذها أو استيحاؤها من هدي القرآن الكريم ومما كان عليه خير القادة المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويتميز بها القائد في الثقافة القرآنية عنه في العلوم الإنسانية

أولا: يؤمِن بمرجعية القرآن الكريم والحبِّ لله والخوف منه. وهذه الصفة تضمن عدم الوقوع في القصور البشري في التشريع وفي الأهداف وفي كل المنصوص عليه في الإسلام، ويضمن الاستنباط للحكم الشرعي من غير المنصوص عليه ضمن الضوابط والإطارات المنصوص عليها؛ كما يضمن أن تلتزم القيادة بقيمٍ عميقة ومنها الإيمان بالله وباليوم الآخر تضبُط الأداء، وتعمل دائما على تحسينه وفعاليته، وتعزِّز حالة الرقابة الداخلية واستمرار المسار الصحيح الذي يرضي الله تعالى؛ يقول الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ... وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة: 48-49).

ثانيا: ينطلق القائد النموذجي من واقع المسؤولية وواقع الوجوب الشرعي، وليس من واقع الطموح والرغبة في البروز والحضور؛ فلولا تحتم القيام بالمهمة لوجد القائدُ لنفسه مندوحةً عن القيام بها وتكلف عنائها، وهذا واضح في سير الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى نبينا وآله، وهم أنموذج القادة الأفضل؛ كما نجده أيضا في واقع الأئمة المصلحين كالإمام علي عليه السلام الذي قال: (ولولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، وسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندى من عفطة عنز).

ثالثا: يهدي القائد إلى الله عز وجل، وإلى وحيه وشرائعه، وينشر تعاليمه، فالقائد في التصور القرآني هو الذي يهدي إلى الحق، ويدعو إليه، ويبينه، ويشرحه، وهداية البشر جزء من مهامه وتكليفاته، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء:73). إنه يهدي بأمر الله إلى مراده، ودينه، وتعاليمه، وشرائعه، وكل ما يقرب إليه، إنه منهج الله في عباده، وهو منهج واضح ومفتوح وليس حكرا على القيادة، فالقرآن والتعاليم الإلهية موجودة، ومن يلي أمر الأمة على أساس هذا المنهج إنما يضع نفسه للرقابة المجتمعية ضمن هذا المنهج الذي بات بحكم المتعاقَد عليه بينه وبين الخلق الذين يقودهم؛ الأمر الذي يعزّز حالة المسؤولية لديه، ويجعله أكثر شعورا بها، فهو من جهة بين الرقابة الشعورية الذاتية المستشعرة رقابة الله، وبين الرقابة الشعبية الخارجية، التي تقيِّمه على أساس المنهج المتعاقد عليه. وهو بطبيعة الحال يتحرّك لغاية رسمها القرآن والدين له، وغاية هذه الغايات هي رضوان الله عليه، هي أن يحصل القائد ومجتمعه على رضوان الله.

رابعا: وإذا كان من أهم وظائف القائد هو دلالته على الهدى ونشره في قلوب الناس وواقعهم، فإنه يجب أن يكون هو على التزام كامل بهذا الهدى، وأن ينطلق على ضوئه، وحينئذ لا يجب بحال من الأحوال أن يكون مناقضا له، (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، وهو حينئذ خاضع لمنظومة كبيرة من الرقابة؛ فهناك الرقابة الذاتية التي تحمله دائما على السعي لمرضاة الله والتحرك الجاد كما أمر الله، وهناك الرقابة المجتمعية التي تجد الدستور الذي يمكنها مراقبته من خلاله. وهو الدستور الذي له سلطان على القلوب والعقول والجوارح؛ إنه سلطان الحجة والبرهان، سلطان القرآن الكريم. وهذا يستلزم أن يكون القائد حسب النموذج القرآني بعيدا عن الخضوع للشهوات الشخصية والنزوات الذاتية في قراراته وتحركاته. كما تتيح تعليمات القرآن الكريم وبحسب الرقابة المجتمعية لمن لديهم الأهلية والمعرفة أن يقدموا نصائحهم للقائد إذا ما وجدوا انحرافا في مسيرته القيادية، وإذا تمادى القائد في هذا الانحراف إلى درجة لم يعد ينفع فيها النصح والحوار فإن المجتمع من خلال العلماء وأهل الاختصاص مخوَّل في أن يتخذ قرار الإنكار بل واجب عليه حتى ولو باستخدام القوة لجبر المنحرفين من القادة على الخضوع لسلطان القرآن والتعاليم الإلهية؛ فـ(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

خامسا: ويجب أن يكون القائد النموذجي عالما، آتاه الله من العلم ما يمكِّنه به من مواجهة المستجدات الحياتية في مختلف المجالات، لا بد أن يكون عالما بما يريده الله من عباده، وما هداهم إليه، وعالما بتنزيل الحوادث على مصاديقها، عالما بالمفترض وبالواقع وكيفية تحريك الواقع على ضوء المفترَض، قال الله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء: 83)، وحين اعترض بنو إسرائيل على اصطفاء الله لطالوت ملكا عليهم بحجة أحقيتهم المزعومة في الملك، وكونِه غيرَ موسَّعٍ عليه في المال، جاء الردُّ الإلهي بأهم المقوِّمات للقائد الفعال والمؤثر، وهي اختيار الله، وأن الله آتاه بسطة في العلم والجسم، العلم الذي به يستطيع سبْرَ غور القضايا المختلفة ويعطيه الخيارات الأفضل في التعامل معها، والجسم الذي يمكنه من القيام بمهامه حيث كان للجسم دور فعال في القيادة الميدانية، في مصارعة الفرسان، ومصاولة الفحول، والقرآن الكريم بهذا يؤكِّد على رفض قيادة الجاهل وغير المؤهل فسيولوجيا. ومع ذلك فإن التكنولوجيا الحديثة واستخدام وسائل القيادة الحديثة تجعل إمكانية الاستغناء عن بعض الاشتراطات بصحة بعض أعضاء الجسم أمرا واردا.

سادسا: يضع القرآن الكريم ضوابط وقواعد عامة للحاكم النموذجي تشكّل بمجموعها النظرية السياسية في الإسلام، ويعتبر الإسلام الكفاءة والقدرة والعدالة والعلم كمبادئ أساسية تشكّل الأساس الذي من خلاله يتم اختيار القائد، وهو بهذا لا يعترف بقيادة المتغلّبين بالقوة، وينكر إمارة وقيادة هؤلاء القادة العملاء الذين تدفعهم الأنظمة المستكبرة لقيادة شعوب مغلوب على أمرها، وينكر الملك العضوض وإمارة السفهاء والظالمين، ورغم أن التطبيق التاريخي الإسلامي لهذه الخصيصة مزعج جدا إلا أنه ليس بحجة أبدا على تجاهل هذه المبادئ وضعف الالتزام بها، فحين أحب سيدُنا إبراهيم عليه السلام أن تكون القيادة في عقبه جاءه الرد القرآني ليبين أن الأساس هو العدل، وأنه لا ولاية للظالمين على الأمة، (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)؛ ويقول الإمام علي عليه السلام: (إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه)[1]؛ ويقول: (وَلَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ وَالنَّعْشُ لِسُنَّتِهِ)[2].

سابعا: يبني القائد دولته على أساس التشارك والانفتاح على كل ما يساهم في بناء الدولة القوية والعادلة والتي تحقِّق الهدف الإلهي، ومؤسسة القيادة لديها القنوات التي من خلالها  تشاور أهل الرأي والخبرة (وشاورهم في الأمر) (وأمرهم شورى بينهم)، ويقول الإمام علي عليه السلام: (من شاور الرجال شاركها في عقولها)، (وما خاب من استشار)، وأما تنظيم هذا المبدأ على الواقع العملي فهو أمر متروك للعقلية الإنسانية لتنظيمه ليؤدي مهمته على أكمل وجه، ومجالس الشورى الفاعلة والحقيقية بصورتها اليوم هي صورة معبِّرة للشورى التي يريدها القرآن الكريم، والتي تساعد القائد على إدارة شؤون دولته، والقرآن بهذا يرفض الاعتراف بالأنظمة الديكتاتورية وحكم الفرد أو الأقليات المتسلطة.

ثامنا: يهتم القائد ببناء الإنسان وروحه وليس ببناء الماديات الفائضة عن الحاجة، إنه التصور الإسلامي الذي يركِّز جهوده لإسعاد الإنسان، وتلك الحضارات المادية بما فيها هذه الحضارة الغربية المعاصرة التي سحقت الإنسان وجعلته عبد شهواته وأسير الحاجات المادية وقرين الشهوات النفسانية هي في الواقع تشقي الإنسان أكثر مما تسعده، إن الحضارة التي ترى في الإنسان الذي يعيش خارج اهتمامها الجغرافي والوطني كائنا لا يستحق الحياة إلا بقدر ما يدر عليها من ماديات لهي حضارة ناقصة وتافهة ومنحرفة؛ وتشير بوضوح إلى مدى الانحراف الفظيع لهذه الحضارة في أهم مقومات أي حضارة حقيقية.

لقد كرم الله الإنسان، كل إنسان، وأعطاه الله حقوقه، وكفلها الإسلام له، وشرع التشريعات الكثيرة التي بها يحافَظ على وجوده وعرضه وكرامته وحريته وحاجته، وضيّق الخيارات إلى حدٍّ بعيد حين يريد معاقبته على جرْمٍ انتهكه أو خالف به؛ ولهذا يثني القرآن الكريم على سيد القادة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128)، وأنه رحمة للعالمين جميعا (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وأنه (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، ومن هذا الخلق جاءت الرحمة التي بها يلين للناس (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران: 159)، إلى كثير من أحواله صلى الله عليه وآله وسلم التي نص عليها القرآن والتي تفضح تصورات وممارسات الحضارة الغربية المادية اليوم، والتي استعبدت الإنسان وجعلت منه مسرحا لجميع أنواع قساوتها وشدتها.

تاسعا: يعتمد القرآن الكريم الالتزام بالمنهجية والأخلاق والقيم القرآنية كمطلوبات على القائد أن يجتهد فيها، ولا يعترف بشروط أخرى، تتعلق بجنس القائد أو أولونه، أو وطنه، أو مذهبه، أو حزبه؛ فالقرآن أممي في اختيار القادة.

عاشرا: القيادة في القرآن الكريم لا تفرق بين الديني والدنيوي فكله ديني، فكل التحركات التي يتحركها الإنسان المكلف هي من طبيعة الدين ومن مقتضياته، حتى التحرك ضمن المباح هو من الدين، وكل تحرك مدني يخدم الإنسان ويسعده ويجلب له الكرامة والعزة والسعادة والرفاه حتى ولو بدا للبعض أنه أمر دنيوي فهو من الدين، والدنيا هي مزرعة الآخرة، هي المكان الجغرافي والمدة الزمنية التي يتجسد فيها الدين واقعا ملموسا، فقط هم المناهضون للدين من يحاولون التفريق بين الديني والدنيوي.

حادي عشر: يتحرك القائد حسب النموذج القرآني في مساحات الخير وميادين العبودية لله سبحانه وتعالى، وضمن أعمال الطاعة له وحده تبارك وتعالى، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء:73)، إنهم في مواقع القدوة العملية، في ما يفعلون، وما يريدون للآخرين أن يفعلوه، من خلال ما يريد الله لهم أن يحققوه من حركة ومنهج وهدف، أنهم يتحركون لصناعة الخير، لإيجاد الخير، لنشر الخير، لفعل الخير، يدعون بحسب منهج الله، ويدعون إلى الخير، ويمارسون في ذاتهم أعمال العبادة التي تزكيهم، ويصلحون وضعية مجتمعاتهم بتعزيز حالة الثقة بين الفقراء والأغنياء، ومع كل ذلك يتمثلون الشعور بالانسحاق أمام الله والانقياد إليه من خلال عبادة واسعة شاملة تتحرك في كل موقع لله فيه أمر فيطيعونه كما يريد تبارك وتعالى.

تلك هي بعض مقاييس ومواصفات القائد بحسب النموذج القرآني والتي تنطبق على سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشكل أولوي، وأفضلي.

==

القيادة العامة من خلال القرآن الكريم والرسول العظيم (الأخيرة)

العبقرية القيادية المحمدية

تميز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمؤهلات خِلْقية وأخلاقية عظيمة أهّلته لأن يكون أزكى البشر عقلا وقلبا وعملا وأفضلهم نتيجة وجزاء، وهيأ الله له أن يكوِّن أمة قوية من اللاأمة، وأن يجمع شتات القبائل المتناحرة في كيان واحد قضى على إمبراطوريات ذلك العالم، وتحركت ثقافته وحضارته المتنوعة وقوته الذاتية التي حافظت على روح الإسلام عبر القرون رغم تلقيها ضربات خطيرة وقاتلة من سلطة الملك الغشوم التي تسللت إلى موقع السلطة فيه.

بالعودة إلى تلك المميزات التي يتميّز بها القائدُ في النموذَجِ القرآني عنه في العلوم الإنسانية، فإن من المؤكد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان النموذج الحي والواقعي لتلك المميزات؛ حيث كان (قرآنا يتحرك) على حد قول أمير المؤمنين علي عليه السلام، وسوف يسلط هذا الجزءُ الأخير من المقالة الضوءَ على بعض الصفات القيادية التي كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

رؤية استراتيجية وخطط فعالة

كان صلى الله عليه وآله وسلم ينطلق في حركته النبوية الرسالية عبر رؤية استراتيجية قضت بتقسيم مراحل الدعوة في مكة إلى قسمين سرية وجهرية، ومرحلتي مكة والمدينة، والتحرك داخل الحجاز وخارجه في الجزيرة العربية، ثم التحرك خارجها ومخاطبة زعماء العالم، وعملية الهجرة التي أعقبت إحداث عملية بناء الأمة وكيان سلطتها العادلة على الواقع العملي، ومن يتأمل حركة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المتصاعدة يجدها حركة منطقية مترتبة تعمل على تطوير الذات وتطوير المحيط ومواكبة التغيرات، ويدرك أن واضع هذه الخطة الاستراتيجية كان عبقريا فذا في التخطيط وذا عقلية خصبة مكّنته من صناعة الأحداث التاريخية على النحو الذي يريده، وهذه هي البطولة التاريخية للقائد.

لم يتحرك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عفوا وارتجالا فكل تحركاته وآرائه تبيِّن تخطيطه ورؤاه المستمرة، وكان قبل ذلك يجمع المعلومات ويبحث عن المكان والزمان والعنصر البشري وثقافته وطبيعة تحركاته لكي تأتي خططه منسجمة مع ما يريده، ومراعية لهذه المعلومات والإمكانات، فحين أرسل المسلمين إلى الحبشة كان يعلم أن هناك ملكا لا يظلم عنده أحد، وحين قرر الهجرة من مكة إلى المدينة كان قد أعد مخططا كاملا لها، بما فيه الطريق التي سلكها، وقد رأى أن البيئة المدنية أصبحت مواتية لخططه، ومكانا طبيعيا لها، وحين كان يرسل الدعاة كان يضع لهم المخططات الفعلية التي عليهم أن يسلكوها، وهذا كان واضحا في وصيته لمعاذ بن جبل حين أرسله واليا على الجند في اليمن، وكان يطلب منهم رفع التقارير عن نتائج عملهم؛ فهذا أمير المؤمنين علي عليه السلام لما وصل أيضا إلى اليمن ودعا همدان إلى الإسلام ونفذ تعليمات رسول الله فيهم، فأسلمت همدان في يوم واحد أرسل الإمام علي تقريرَه عن نتائج مهمته بإسلام همدان في يوم واحد؛ الأمر الذي حدا برسول الله أن يسجد لله شكرا، ثم يقول: السلام على همدان، ثلاثا.

وفي ما يتعلق بخططه العسكرية فقد كان يسبق أعداءه إلى المعارك ليبحث طبوغرافيتها ويختار المكان المناسب والجيد ويوظفه في صالح انتصار المسلمين، ويستخدم أسلوب المفاجآت لإرباك العدو وإشغال العدو بنفسه واختيار الزمان والمكان المناسب والقيادة المناسبة؛ كما يتبين من اختياره المكان في معركة بدر، وكان يختار مركز القيادة بدقة، وما تجلى من تخطيط بديع في أحد وفي الأحزاب وفي كل المعارك التي قادها بنفسه أو كلف آخرين بها فهو يشير إلى حنكته الحربية وقدرته الهائلة على استغلال الظروف والبيئة لصالح مشروعه الإلهي.

لقد كان لديه رؤية استشرافية دقيقة حول الأمور ومستجداتها وتطوراتها وكان قائدا عظيما يستحضر إمكاناته وكيفية وضعها في متناول تحركه المثمر، وكيفية استخدامها بالشكل الذي يعطي النتائج الأفضل، لقد كان خبيرا بتجنيد كل قوة في يديه، قوة الرأي وقوة اللسان، وقوة النفوذ، وقوة الحجة، وقوة الموقف، وقوة الحق.

صراع الأدمغة

تعددت طبيعة مهمة الرسول الكريم القيادية وتبدو مؤهلاته في ما يتعلق بهذا للوهلة الأولى متناقضة فهي تهدي العقول وتهذب الطباع وتنشر الرحمة وتبشر بها، لكنها قوية تواجه الإنسان المنحرف الذي تمرد على العقل والمنطق، وتباغت القوى التي تكيد للإسلام بكل قوة وجهوزية، لقد كان الرسول عبقريا في القيادة الروحية مثلما كان عبقريا في القيادة التشريعية، والقيادة العسكرية والقيادة الاقتصادية والقيادة الاجتماعية والقيادة السياسية الداخلية والخارجية، لقد كان سلطانا على العقول والقلوب مثلما كان سلطانا على الجوارح والأعمال.

في مكة يوم كان الرسول وحيدا يدعو إلى دين الله ويواجه العالم بمفرده، كان يتحرك بفعاليةٍ ناجحة وبجرأةٍ كبيرة وبتحدٍّ عظيم، وحين كانت تضع قريش كل إمكاناتها في مواجهته والضغط عليه لم يقدروا على أن ينالوا منه تنازلا ولو بسيطا، حتى أعياهم عن القيام بشيء يوقفه عن تحركه، وفي غار ثور عند الهجرة كان يصارع أدمغة قريش التي أعلنت عن جائزة ثمينة لمن يقبض عليه حيا أو ميتا، وهو لا يزال في محيطها، وكان صراع الأدمغة حاضرا بقوة في كثير من محطات حركة الرسول في الصراع مع الصلف القرشي، وفي مواجهة كل أنواع القيادات والقوى العالمية التي تناصبه العداء، وكان في كل مرة يهزمهم هزيمة مؤلمة.

عزم الرسل

تميز صلى الله عليه وآله وسلم بصفة قيادية عظيمة هي العزيمة والثبات، كان يثبت على موقفه الحق والعادل، حيث النبوة والرسالة لا يقبل الحق فيها أنصاف الحلول ولا شطور الأعمال، وحين تحيط به الأزمات، وتحدق به المؤامرات يثبت لها ثبات الرواسي ويديرها إدارة حكيمة وهادئة برويةٍ وفكرٍ وتأنٍّ، لا يعجل ولا يتأخر، كل حركة ففي وقتها، وكل قرار ففي حينه، ولما ضغطت قريشٌ على عمه وناصرِه أبي طالب عن التوقف عن عيب آلهتهم وانتقاصها أعلنها مدوية قوية: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه)، ولما تحزّب الأحزاب من اليهود والكفار وأهل الأهواء يريدون استئصال الإسلام في المدينة والقضاء على أهلها قابل ذلك بثباتِ موقفٍ ونفاذِ بصيرةٍ وتحركٍ جادٍّ وهادئٍ، وكان عاقبة ذلك حفرَ الخندق والعملَ على تخذيل جبهة العدو وإنشاء العداوة في ما بينها، والإرادة الصلبة والهمة العالية والعزيمة القوية هي الدوافع الرئيسة للعمل حتى تحقيق الأهداف، فالقائد الذي لا يملك هذه الأمور لا ولن ينجح في حياته، ولن يحقق من أهدافه شيئاً.

القدرة على امتصاص الضربات

فكلما كاده الأعداء بشيء عظيم يريدون إسكاته أو شل حركته من خلاله ظهر من خلفهم منتصرا، وأظهر أنه أكثر جدية من ذي قبل، رجمه أهل الطائف حين دعاهم إلى دين الله حتى أدموه، فاستند إلى عرض حائط يرد عن نفسه غائلة أحجار غلمانهم وسفهائهم، ثم ناجى ربه بالمغفرة والهداية، وكأن شيئا لم يحدث، وحين خاض المنافقون في حديث الإفك الذي يستهدف عرضه وشرفه تغلب على هذه الشائعة وانتصر عليها ليخرج منها أكثر براءة وطهارة وتألقا.

الصبر

وحديث الصبر طويل في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، صبر على العبادة لله، وصبر على أعباء الدعوة، وصبر على ثقلها، وصبر على مكابدة الأعداء، وصبر على انتظار النتائج حلوها ومرها، وصبر على إيذاء الأعداء والمنافقين، وصبر على نزاعات الصحابة واختلافاتهم، وصبر على تهذيب الأعراب وتعليمهم، لقد كان واسع الصدر حليما كريما، قادرا على تحمل ما لا يتحمله غيره، والصبر صفة محمودة ومطلوبة وأساسية في القادة العظام، فآفة أعمالهم العجلة والخِفة والحمق والطيش، لكن الصبر في الرسول الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان في مكانة عظيمة، وهناك محطات وقصص تبرهن عظيم صبره صلى الله عليه وآله وسلم وكبير تحمله.

الشعور بالمسؤولية

 لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بالمسؤولية العظيمة التي كلفه الله بها، بل كاد أن يبخع نفسه أسفا أن لم يؤمن الكفار بالدين، وحرصا على هدايتهم، وسلوكهم السبيل المرضي لله، ليس هذا الشعور شعورا مترفا يمكن الاستغناء عنه بل كان واقعيا ومسؤولية عظيمة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشعر أيضا أنه قادر على تحمل هذه المسؤولية وظل يطلب من كل مكلف في أمته أن يتحمل مسؤوليته كما ينبغي، واعتبرها أمانة على الإنسان وعليه أن يقوم بها بجدارة.

الصادق الأمين

وقلّ أن يكون هناك قائدٌ في البشرية لا تضطرُّه أحوالُ أوليائه وأعدائه إلى ارتكاب الكذب، لكن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان وظل (الصادق الأمين) منذ صغره، وإلى بعثته، وحتى مماته، فلم يجرَّب عليه كذبة واحدة، ولم تستجب نفسه الصادقة لضرورات الحاجة إلى قولٍ مكذوب أبدا، وهنا العظمة تتجلى في أجمل عناوينها وفي أفضل صفاتها، حين يتربّع قائد على عرش أمة تصارع الأمم وتتناقض علاقاتها في ما بينها ولا يسجل عليه التاريخ كذبة واحدة، بل نراه يحث على الصدق ولو ظهر ضارا، ويحث على الأمانة وإنكار قول الزور، ولا يعني هذا أن يقول الإنسان الصدق الضار من غير ضرورة تلجئه فهذا شأن آخر ينتمي إلى باب الحنكة والاستنباط.

متواضع

وطالما أكسب القائدَ موقعُه الأبهةَ والعظمة فتخفَّفت نفسه من قيم التواضع والبساطة، وراق لها أن تحتجب عن البسطاء، وأن تقلل من الاختلاط بهم، لكن قائدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان القائد العظيم الذي تهابه قادات الأرض وتخاف منه ملوكها وأمراؤها ومع ذلك كان يقف مع المساكين، ويتفقّد الفقراء، ويعيش عيشتهم، ويأكل أكلهم، ثم يدعو الله تعالى: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين). لقد كان متواضعا إلى حدٍّ مثير للعجب، فحين ارتعدت امرأة وهي تكلمه هوّن خوفها، قائلا لها: (هوِّني عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة).

ماهر الإصغاء

وكان تواضعه خلقا أصيلا متمكنا في نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من لوازمه مهارة الإصغاء والاستماع للآخرين حتى ولو كان أحدهم ممن يعاديه ويؤلب عليه، فهذا عتبة بن ربيعة، جاء يفاوضه وكال له مجموعة من الشتائم مثل: "ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، حتى لقد طار أن في قريش ساحراً وأن في قريش كاهناً"، كما استمع إلى عروضه، وإلى أسئلته، فلما أتم عتبة كلامه قال له: (أفرغت يا أبا الوليد)، قال: نعم، فلم يردّ على عروضه، وتلا عليه صدراً من سورة: (فصِّلت).

قائد روحي

ولأنه القائد الإلهي المرسل رحمة للعالمين فلم يكن سلطانا على الدنيا، وعبقريا في الإدارة والسياسة والحرب بل كان سلطانا على العقول قبل أن يكون سلطانا بالحرب، وكان سلطانا على العاطفة والوجدان قبل أن يكون سلطانا بالقوة والمال، كانت تأثيراته الروحية والإيمانية أقوى سبيلا وأشد وطئا من تأثيراته العسكرية أو الاقتصادية، وفي كل ذلك يتحرّك في منظومة واحدة وبخيارات متعددة، تضمن له تحقيق الأهداف بأي خيار منها، لقد كان سلطان المهابة والجلال والاحترام والكفاءة والمهابة، لقد كان سلطان الرحمة قبل أن يكون سلطان العدل؛ فلا يذهب إلى العقوبة إلا حين تنغلق أبواب الرحمة وحين يكون ترك العقوبة عاملا في نفي الرحمة.

قائد يصنع القادة

وإذا كلّف أحدا من أصحابه لعمل ما فإنه يكلفه بتلك المهمة في الوقت الذي يدرِّبه بها ليكون قائدا من قادة الإسلام، فتخرّج ذلك الرعيل العظيم من القادة العظماء الذين عجز الزمان أن يأتي بمثلهم، وكان يوزِّع المسئوليات والمهام في ما بينهم، فيختار بعضهم للقيادة العامة، وبعضهم للصلاة بالناس، وبعضهم للدعوة، وبعضهم للقضاء، وبعضهم للحكم والسياسة، وبعضهم لحفظ سره، ولحفظ أسماء المنافقين، وقد يكلف بعضا منهم لبعض تلك الأعمال أو كلها، هذه هي المدرسة النبوية التي تخرج منها القادة العظماء.

عبقريته الإدارية

تجلت عبقريته الإدارية صلى الله عليه وآله وسلم في إنشائه وحثه على الإدارة الفعالة التي تعرف النظام وتعرف التبعات وتعرف الاختصاص بالعمل، وظل يعلِّم أمته الإدارة وأهمية الانتظام تحت الرئاسة، فدعا الاثنين المسافرَين إلى تأمير أحدهما، وكان حريصا على إقرار التبعات على من فعلها يوضح المهمات ويعطي الصلاحيات، ونجح في الإدارة العليا بتدبير الشؤون العامة لا سيما حين تصطدم بالأهواء والنزاعات الداخلية، والتي كانت قريبة عهد بالجاهلية المثخنة بالعصبيات والمعمَّقَة جروحُها بالثارات. وهو في كل ذلك لا يكتفي بإدارة الشؤون والأمور بل أيضا بإدارة المشاعر وتوجيه الشعور نحو ما يجب وما ينبغي.

عبقريته العسكرية

وفي قيادته العسكرية تجلت عبقريته متميزا على كثير من القادة بإصابته في وضع الخطط الناجحة، واختيار الوقت المناسب، وتسيير الجيوش، وإصابة الحساب، وكان إذا علم أن عدوا يريد مهاجمته بادر إلى القضاء على قوته تلك حتى ولو كان في حالة غير مواتية مثلما حدث في تبوك حيث كانت الإمكانات المادية للمسلمين ضعيفة جدا، وكان أعداؤهم الرومان دولة عظمى، وفي كل ذلك كان يعتمد على القوة المعنوية والدافعية الروحية أكثر من سواها، ووظفها توظيفا بالغا، وخرج الأسود من أصحابه يزأرون بسلاح اليقين، وينطلقون بعِدَّة الإيمان وذخيرة التقوى والجهاد، ومن عبقريته أنه كان يستهدف مراكز العدو الاقتصادية التي يستمد منها قوته وبقاءه وتمويله، وهو ما يسمى الآن بقرار المصادرة في القانون الدولي، من غير أن تطال هذه المصادرة مظلوما أو من لا علاقة له بالحرب، وتميزت قيادته العسكرية في قدرته الفذة بمعرفة أعداد الأعداء، ولم يحدث أن أخطأت تقديراته عن العدو يوما، مثلما وقع فيه قادة الحروب في العصر الحديث، وكان إذا أراد مهاجمة عدوٍّ ورّى عنه بغيره، ومع تلك الانتصارات والقيادة الفذة له صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يلتزم قيم الصدق والأمانة والرحمة والمبدئية العادلة الواعية، تغلب عليه الرسالية الرحموية على العسكرية الصارمة، ويلتزم المبادئ حتى ولو أضرت به، فقد رفض صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الخمس من سرية عبدالله بن جحش حين هاجمت قافلة لقريش في اليوم الأخير من الشهر الحرام، وكان يكتفي من الحرب بما كان ضرورة منها، مع قله هيبة لها، وعدم اكتراث من مواجهتها، فقد كان القائد الذي يحمي أفراده حين يحمى الوطيس كما أخبر عنه الشجاع البطل الإمام علي عليه السلام، وهكذا "تجمعت فيه أطيب صفات الحنان وأكرم صفات البسالة والإقدام".

عبقريته السياسية

لقد كان يحقق الانتصار السياسي بأقل كلفة وجهد ومال، وذلك لمؤهلاته وخبراته وحسن تخطيطه ودقة استشرافه لتطورات الأحداث ومتغيراتها، لقد بدا لبعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غُبِن في صلح الحديبية وأنه تنازل عن أشياء كثيرة، ولا سيما في النص القائل: (ومن عاد من محمد إلى قريش فليس عليهم أن يردوه، ومن أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه أعاده إليهم)،وحينها عاد مفاوِض قريش سهيل بن عمرو منتفشا بالانتصار الشكلي؛ لكنه سرعان ما اصطدم القرشيون بهذا النص الذي خلق لاعبين جددا متمردين على هذه المعادلة التي أرادت قريش إقرارها لصالحها، لقد استطاع رسول الله ص بذلك توظيف نتائج عمل هؤلاء اللاعبين الجدد لصالح انتصار واقعي حقيقي، خرج كثير من أبناء القرشيين الذين أسلموا من مكة ليشكلوا مجموعات ضغط على قوافل قريش وطرقها، وظهر الرسول خلوا من أي مسؤولية عليهم، وإذا بقريش تأتي لتستجدي الرسول محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وتطلب تنازلها عن هذا النص، وأن يضم هذه المجموعات المتمردة، وحين أدى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عمرة القضاء في العام القابل، انتصروا انتصارا سياسيا قويا، وأصبح المسلمون يحققون الانتصارات الاستراتيجية ليس من باب الحرب فقط ولكن أيضا من باب السياسة والمفاوضات، فقد أصبحوا منذئذ قوة لا يستهان بها في الجزيرة العربية اضطرت للاعتراف بها قريش الجاهلية؛ وفي عمرة القضاء لما كانوا يطوفون حول البيت أوصلوا رسائل دينية وسياسية ونفسية استطاعت أن تزلزل كبرياء القرشيين ولا سيما حين كانوا يرددون: (لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)؛ الأمر الذي أفسح المجال للمسلمين في التحرك جنوب وشمال الجزيرة العربية، وأتت نتائج سياسية ودعوية وعسكرية مهمة على أصعدة مختلفة، وأحس المستضعفون أن بإمكانهم الدخول في الإسلام بدون خوف.

هذه بعض الملامح القيادية التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحببت التذكير بها وأن تكون مسك ختام هذه المقالة، فهو حقا مسك الختام بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

 

[1] نهج البلاغة، خطبة رقم173.

[2] نهج البلاغة، خطبة رقم169.

دخول المستخدم
القائمة البريدية
استطلاع رأي
ما رأيك في موقع المجلس الزيدي
مجموع الأصوات : 0
صفحتنا على الفيسبوك
جميع الحقوق محفوظة 2024