النبوة والإمامة " بحث من كتاب التيسير في التفسير" ...أ/ محمد جسار

النبوة  والإمامة 

                                  أ/  محمد جسار

بحث من كتاب (التيسير في التفسير للسيد العلامة المجتهد الحجة بدر الدين بن أمير الدين   
الحوثي سلام الله عليه).

النبوة والإمامة قضايا كثيرا ما يُخلط بينهما, وفي أحيان كثيرة يتعدى الأمر مجرد الخلط ليصل إلى اعتبار الإمامة درجة متقدمة على النبوة.
العلامة بدر الدين الحوثي سلام لله عليه تناول في تفسيره( التيسير في التفسير ) عند تفسيره للآيات المتصلة بالنبوة والإمامة برؤية عميقة وفهم قرآني له قراءته، مما يجعل كتبه محل تأمل وإثراء في حال تناول هذا الموضوع أو الكتابة عنه في النظرية السياسية في الإسلام ، ولذلك كان الحرص على تقديم مفهوم الإمامة والنبوة ، أين يلتقيان وأين يفترقان ؟من خلال هذا التفسير .  

تفسير قول الله تعالى (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).

معنى الابتلاء

 (}وَ{ اذكروا يا بني إسرائيل } إِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ { اختبره بهن , أي شرع له خصالاً أو أمره بخصال }فأتمهن{ أي أتم ما ذكر له في الكلمات , فرجع الضمير إلى الكلمات ؛ لكونه أتم المذكور فيهن , كقوله تعالى : } ونرثه ما يقول { ونظيره قول الشاعر :          

إذا نزل السماء بأرض قوم      رعيناه وإن كانوا غضابا .

والمراد : أنه عليه السلام  قام بما شرع له في الكلمات المذكورة كاملاً بلا تقصير ولا بخس , فالعمل كامل والنية خالصة والذهن حاضر, والخشوع كامل , وعلى الجملة قام به على الوجه المشروع بلا تقصير في ذات ولا صفة , وذلك لقوة إيمانه ويقينه وصبره .

الرد على من قال أن ابتلاء ابراهيم بعد الرسالة

ويحتمل : أن هذا الابتلاء كان قبل النبوة والرسالة , فكان إتمامهن سبباً للرسالة والإمامة لمن في عصره ومن بعده, , ومن يدعي أن هذا الابتلاء كان بعد الرسالة , فليس له دليل . ولا يشكل قول القائل : إن هذا الإبتلاء لا يكون إلا بوحي, فكيف يكون قبل النبوة ؛ لأنا نقول : ما المانع أنه كان (عليه السلام ) محدثاً قبل النبوة تهيئة للنبوة كما كانت مريم بنت عمران وأم موسى , ولو سلمنا أنه لا يكون قبل النبوة فلا دليل على تأخره , ومن الجائز أنه كان في أول النبوة ثم ترتبت الرسالة على إتمام الكلمات بعد النبوة, أي أنه كان نبياً فابتلي بكلمات فأتمهن , فجعل رسولاً وإماماً للأجيال .

هل الإمامة درجة أرفع من النبوة والرسالة ؟

} قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا { فإتمامه لما ابتلي به كان سبباً لجعله للناس إماماً عندهم , وقد قيل : إن فيه دلالة على أن الإمامة أعظم من النبوة لأنه كان نبياُ ثم بعد ذلك صار اماماً عندهم .
ونقول : لا دلالة على ذلك ؛ لأن الإمامة رتبت على إتمامه ما ابتلي به لا على النبوة , والنبوة تكون لمن اختاره الله لها , ولو لم يكن رسولاً , ومن الجائز أن يكون الله اختار إبراهيم لنبوة لكونه أهلاً بصلاحه العقلي .

وكونه شاكراً , بدليل قوله تعالى :}وكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهٌمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ الَّلهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينْ{ [الأنعام:53]. واختاره للرسالة بإتمامه ما أمر به , فكانت النبوة أولاً لنفسه والإمامة من أجل الناس ولعل سبب تقديم النبوة في حقه أنه لم يكن لديه كتاب ولا أثر من نبي كان قبله, فلم يكن بد من تقديم نبوته ليعرف ما يخصه من التكليف فتأخرت الإمامة عنها لا لكونها  أعظم من حيث هي إمامة , ولا لكونها درجة أرفع, بل لكون الإمامة تتوقف على العلم والصبر واليقين بآيات الله , والنبوة لا تتوقف على العلم بالشرعيات ؛ لأن ذلك دور, إذا لم يكن عنده كتاب أو أثر من نبي قبله كآدم عليه السلام .

الرد على من يقول أن الأهلية للإمامة أعظم من الأهلية للنبوة

فإن قيل : فقد دل ذلك على أن الأهلية للإمامة أعظم من الأهلية للنبوة ؛ لأن الأهلية للإمامة توقفت على العلم بالشرعيات بخلاف النبوة؟
 قلنا : لا دلالة على ذلك؛ لأن الأهلية للنبوة وإن لم تتوقف على العلم بالشرعيات , فالنبوة تتوقف على كمال عقلي واستعداد فائق, فلا يبعد أن يكون بعض من يصلح لإمامة لا يصح للنبوة, اللهم إلاَّ أن يراد الإمامة العامة, كإمامة إبراهيم الخليل وإمامة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمامة التي هي لازم الرسالة. كما قال تعالى :[وَمَا أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلا ليُطَاع بِإِذْنِ اللَّهِ][النساء:64], وقال تعالى:{من يطع الرسول فقد أطاع الله } [النساء :80], وقال تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [النساء :59] وغير ذلك فهي إمامة الرسول فيما أرسل به وكونه متبوعاً فيه لكل من أرسل إليهم وكل من أمر باتباعه من الأجيال المتتابعة, فهي متوقفة على النبوة, وهي أعظم درجة من أجل الرسالة من حيث أمر أن يبلغ ويدعو إلى طاعته من أرسل إليهم ويقوم بتكاليف الرسالة الشاقة التي ذكرت في القرآن ودل على عظمها وعظم مشقتها, ولا تكون إلاًّ لذي أهلية خاصة, كما قال تعالى:{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعْلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124].

والحاصل: أن الإمامة مُختلفة, وفضلها مختلف, وعظم إمامة إبراهيم عليه السلام لا يستلزم أن تكون كل إمامة مثل إمامة إبراهيم.
 وحاصل الجواب: أنا لا نسلم ترتب إمامة إبراهيم على نبوته, بل على طاعته, فلا نسلم أن الإمامة أفضل , وانا لو سلمنا أن إمامته أفضل من نبوته فلم نسلم أن كل إمامة مثلها, وقد قال تعالى في (بني إسرائيل):{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُون بأمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَتِنا يُوقِنُون}[السجدة:24] فلم يرتب إمامتهم على نبوة, وإنما رتبها على صبرهم ويقينهم بآيات الله اليقين المستمر.

وقد قيل : إن يقينهم كيقين إبراهيم الخليل المذكور في قوله تعالى :{ وَكَذَٰلِكَ  نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام 75]
والجواب: أن يقينهم بآيات الله أنها دليل على ما هي دليل عليه, وهو يصح أن يوقنوا بها جملة, ولا يتوقف على أن يريهم الله ملكوت السموات والأرض كما أرى إبراهيم عليه السلام , إنما يتوقف على العقل الكامل والإيمان الراسخ والنظر والتفكر مع أن الملكوت المُلك – بضم الميم , وإراءتُه إعلامه, وهو يحصل كذلك بالنظر المؤدي إلى العلم بأن الله رب كل شيء , فله الأمر, ومع أن يقين إبراهيم مطلق ويقين أئمة بني إسرائيل مقيد بالآيات ,فلا وجه للتسوية بين يقين إبراهيم الخليل عليه السلام ويقين سائر الأئمة , وعلم ذلك عند الله تعالى .

الأئمة من ذرية إبراهيم (ع)

{ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } اجعل أئمة بقرينة قوله تعالى:{ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فالجمع يدل على أن المطلوب جمع, وهو عليه السلام أراد أئمةً للناس كافة لمن في عصره ولمن بعده من الأجيال كما أن إبراهيم عليه السلام  إمام كذلك, والكلام في سياق الاحتجاج على أهل الكتاب الكافرين بمحمد صلوات الله عليه وعلى آله, فظهر أنه المقصود بإيراد القصة؛ لأنه رسول إلى العالمين صلوات الله عليه وعلى آله وسلم .

{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} وهذا يفيد: أن قد أجاب دعوة إبراهيم وزاده فائدة ؛ أنه لن ينال عَهْدُه بالإمامة ظالماً فليس هذا ردَاً على إبراهيم عليه السلام. ولا تخصيصاَ لدعوته ؛ لأنه قال : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فأتى بـ{مِنْ} التي للتبعيض , فليس فيها عموم وليس في كلامه تعرض لكونه ظالماً أو غير ظالم.

وفائدة هذه :
أوَلاً : الرد على من  سيكفر ويقول :{ أَهَؤُلَاءِ مَنَّ الله عَلَيْهمْ مِنْ بَيْنِنَا }[الأنعام:53] {وَإذا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله }[الأنعام:124]
ثانياً: الرد على من ادعى النبوة من الظالمين كمسيلمة الكذاب لتكون معرفة ظلمه كافية لإبطال دعواه.
ثالثاً: الرد على من ادعى الإمامة الشرعية وهو ظالم, فيكون ظلمه دليلاً على كذب دعواه وهو وإن لم يكن السياق فيه فقد دخل في عموم عهدي, وعموم الظالمين, والعام لا يقصر على سببه.

هل الآية توجب عصمة الإمام ؟

 وقد قيل : إن هذا دليل على عصمة الإمام؛ لأن من عصى فهو ظالم؛ ولو كان قد  تاب .

قلنا : التائب قد خرج عن اسم الظلم؛ لأن توبته قد محت ذنبه وصار مستحقاَ للمدح غير مستحق للذم, وتسميته ظالماً ذم له بعد خروجه عن استحقاق الذم, وصار مؤمناً, ومحسناً ضد الظالم وضد المسيء , قال تعالى:{ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفٍقٍينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهَمْ وَالذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ}[الشورى:22].
 فهل تقولون : أن التائب هو من النوع الأول ؟ أم من النوع الثاني ؟
فإن قلتم : من الأول, خالفتم قوله تعالى :{وَهُوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِئَاتِ }[الشورى:25] وقوله تعالى:{ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيْئَاِتِهِمْ حَسْنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمَا }[الفرقان:70] وعلى هذا اللغة العربية, فمن أساء سمي مسيئاً حتى يرجع ويتوب من إساءته ويصلح ما أفسد ويحسن, ومتى صار محسناً  سمي محسناُ ولا ينظر إلى إساءته من قبل.
وكذلك من أحسن يسمى محسناً, ومتى تحول عن طريقته وصار من المفسدين لم يسم محسناً نظراً لإحسانه السابق قبل الإساءة, فدعواكم أن التائب ظالم غير مسلمة ولا حجة لكم إلَّا استصحاب اسمه قبل التوبة, وهو استصحاب باطل؛ لأن التوبة قد محت ظلمه واختلفت حاله فهو كاستصحاب اسم الكفر لمن قد أسلم, واسم الإسلام لمن قد أشرك, واستصحاب اسم المريض لمن قد عوفي وصار صحيحاً وغير ذلك.

فاللغة لا تثبت لكم هذا الاستصحاب, وهو دعوى على اللغة لا تسمع, فلا نسلم أن التائب من ظلمه المبدل حسناً بعد سوء الذي يبدل الله سيئاته حسنات ظالم داخل في عموم :{لا يَنَالُ عَهْدٍي الظَالِمِينَ} وعلى هذا فيكفي ظهور عصمته, أي هدايته وتوفيقه من بعد التوبة والإصلاح, فإن قالوا: لا يخلو إما أن يكون إبراهيم طلب إماماً ظالماً أو لم يطلبه.
الأول باطل بالاتفاق. والثاني: إما أن يكون طلب إماماً معصوماً. أو لم يطلبه,  الأول هو ما نريد . وقوله {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} إجابة مطابقة, والثاني أن يكون طلب إماماً معصوماً أو غير معصوم, فقوله تعالى { قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } لإخراج غير المعصوم, وقصر الإجابة على المعصوم .

 والجواب : نختار الثاني في أول قسمة ,فلم يطلب ظالماً , ونختار الثاني في القسمة الثانية فلم يطلب في هذا الدعاء معصوماً, فلا ذكر للعصمة. وقولكم فقوله { قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لإخراج غير المعصوم, دعوى لا دليل عليها , بل هو إجابة مطابقة.
فإن قالوا : إذا جعلناها إجابة مطابقة بطلت فائدتها؛ لأنه إذا طلب إماماً غير ظالم, وأجيب بأنه { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لم يكن الجواب رداً على إبراهيم ولا تخصيصاً لكلامه .
قلنا: لا موجب لجعل الجواب راداً على إبراهيم, ولا لجعله تخصيصاً لدعوته, فأما الفائدة فلم تقصر على ذلك, ويكفي في الفائدة التصريح بما لم يذكره إبراهيم , وكون التصريح من مالك الملك .

هل يشترط في الإمام أن يكون منصوصاً عليه؟

 فــصـل : وقد قيل : إن هذه الآية دليل على أنه لابد أن يكون الإمام منصوصاً عليه بعينه, ووجه الدلالة: أن الآية قد دلت على أن الإمام لا يكون ظالماً من غير فرق بين الظالم في الظاهر والظالم في الباطن, فدلت على أنه لابد أن يكون منصوصاً عليه, وإلا جاز أن يكون ظالماً في الباطن.
 قلنا : أما الرسول فلا بد من أن يصدقه الله بآية خارقة لا لأجل هذه الآية الدالة على أن الرسول لا يكون ظالماً, وذلك لأن ظهور كونه غير ظالم, وعدم العلم بظلم منه باطن لا يكفي في تصحيح دعواه الرسالة, ولم يثبت دليل عام يقتضي الاكتفاء بظهور عصمته.
وأما الإمام من بعد علي والحسنين فإنه يكفي ظهور فضله, وظهور صلاح ظاهره وباطنه, ولا نكلف علم باطنه؛ لأن الآية لم تشترط ثبوت العصمة إنما نفت العهد للظالم ولم تنف العهد لمن جوزنا أنه في الباطن ظالم ولا دلت على وجوب العمل بهذا التجويز ولأنه لا يثبت حكم المعصية إلا بعد ثبوتها, وإذا لم تثبت وجب العمل على حسن الظن, لقوله تعالى:{ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12].

 والحاصل : أن الآية إنما دلت على أن الظلم مانع, ومجرد تجويز وجود المانع لا حكم له, ألا ترى أن إمام الصلاة يجوز أنه جنب في الباطن ولا حكم لهذا التجويز إذا لم يظهر أنه جنب.)

دخول المستخدم
القائمة البريدية
استطلاع رأي
ما رأيك في موقع المجلس الزيدي
مجموع الأصوات : 0
صفحتنا على الفيسبوك
جميع الحقوق محفوظة 2024