الحظ الوافر .. من ميراث الراحل السيد العلامة عبدالرحمن الحوثي .. بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
الحظ الوافر .. من ميراث الراحل السيد العلامة عبدالرحمن الحوثي .. بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
المجلس الزيدي الإسلامي - خاص
ودّعت اليمن والأمة العربية والإسلامية نجما من نجوم العترة النبوية الشريفة، وشيَّعته الجموع الغفيرة في صنعاء، ثم أسرعنا به الخطى إلى روضة أخروية لإخوته السابقين في محافظة صعدة، ليوارَى جثمانه الشريف هناك بدون تجمُّعٍ ولا كثيرِ انتظار، وإلا فإننا سنقدِّم للحقارة السعودية طبقا شهيا من لحوم المدنيين والمحبين، في وقت هي أشد ما تكون سعارا ونشوة واشتهاء للجريمة.
كان العلامة الراحل السيد عبدالرحمن بن الحسن بن الحسين الحوثي أصغر سبعة إخوة، كانوا وبنو عمَّيهم، من فرعي آل أمير الدين بن الحسين، الذي منه تهدّل غصن السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، وآل يحيى بن الحسين، ومنهم عميد الإرشاد السيد العلامة الحسين بن يحيى الحوثي، ظلت هذه الشجرة المباركة بفروعها المتنوعة يملؤون مكانا كبيرا في الحياة الثقافية والفكرية والعلمية والاجتماعية في محافظة صعدة، والمحافظات المجاورة، منذ عقود من الزمن.
أسرة كبيرة لا يوجد في كثير من أفرادها هامشٌ للهامشية، ورِثوا المجد والعلم والمكانة الاجتماعية كابرا عن كابر، وحتى في أوقات النزاعات والحروب ظلوا مصدر احترامِ خصومهم، وطالما أشار إليهم زعماء القبائل الناقمون على سلطة آل حميد الدين مثلا ببنان الاحترام والتبجيل، وحفظوا لهم سوابق من العُرْف والخير والكرم والنوال.
أولا: الاعتدال والتسامح
ابتُلِيَتْ هذه الأسرة منذ التسعينات في القرن السابق بالاختلاف على الأولويات، وتحلَّق حول كل فرع من فروعها جماهير تؤيدها، وعملت السلطات السعودية على توسيع الفجوة بينها، غير أن الروابط الاجتماعية والهدوء والاتزان سرعان ما أعاد لحمة هذه الأسرة وجماهيرها.
في خضم الاختلاف ومسارح فصوله المثيرة والملتهبة ظلّ الراحلُ سلام الله عليه نقطة بيكار، وهمزة وصل يلتقى عنده المتنازعون، وجسرا تمر منه الإيحاءات الإيجابية، وكان عفيف اللسان، طويل البال، منشرح الصدر، وضاح الجبين، متلألئ المحيا، لا يكاد يجد فيه المخالفُ له ما يشير إلى ضيقِ خلُق، وانطباقِ صدر، وحزازةِ نفس، إنها المعالي حين تحط رحالها في فيحاء القلوب الواسعة، والأخلاق حين تنشر لواءها الخفاق على حصون العقول الكبيرة.
لم يكن اعتدالُ الراحل وتسامحُه نتيجة قصرِ نظر، أو ضبابية رؤية، بل كان دورا يريده ويديره الراحل كقناة وصلٍ تجْمَع ولا تفرِّق، وتحاوِر ولا تناوِر، وتسوق الناس رويدا رويدا إلى رياض العقل، بعيدا عن رياح العواطف المستجاشة، والغرائز المستثارة؛ إذ ربما رأى أن الوفاق أقرب ما يكون مع الأخلاق، وأن للحوار كلمة الفصل التي تهدي المختلفين إلى أقوم الطرق وأهداها.
ما أعظم الاعتدال والتسامح وما أجلَّ أثرَ ما يخلِّفُه على أهله وذويه، وعلى أجيالهم وطلابهم، وهل سيدي الراحل إلا مثلٌ حيُّ نابضٌ بالمحبة والإنسانية والتسامح والاعتدال والتسامي لكل مسلم، قد تضيق به سبُلُ الاحترام، وتحيره مرابض الجفاء، فيا له درسا ما أجدرنا بأخذه، ومثالا خليقٌ بنا أن ننسج على منواله.
خبِرْتٌ كثيرا من رجال الحركة العلمية والثقافية والإرشادية فوجدْتُ نجل العلامة الراحل السيد العلامة عبدالمجيد الحوثي، مثالا مشرِّفا للعالم المعتدِل، الذي أوتي بسطة في العلم والجسم، وسعة في الأفق، ورحابة في الصدر، وسموا على السفاسف، وبعدا وعمقا في الرؤية، واعتدالا في المزاج، بحيث استطاع أن يشكِّل نموذجا رائعا للتلاقي رغم اعتزازه برؤاه، وللتسامح رغم اكتظاظه بالحجج والأدلة، وللتسامي رغم وجود الكثير من المحبطات؛ ذلك أنه حمَل نفسا إنسانية تأنس لكل الناس، وهمة علمية ترنو لحدائق العلم الغناء، وروحا جهادية عالية تنشرح لميادين البذل والعطاء.
وإذا عرف السبب بطل العجب، فإذا عرفنا أن (عديا بأبه اقتدى) في التسامح والاعتدال، والعلم والنظرة الجامعة قلنا: رحم الله الراحل، فـ(ما مات من خلّف)، وعليه فقس كثيرا من أنجال الراحل وتلامذته ومحبيه؛ وهو ما كان له أثرٌ إيجابي على الوضع الثقافي والاجتماعي وحتى الجهادي الذي نعيشه اليوم.
ثانيا: الارتباط بالله
تميز أهل هذا البيت بأن كانوا أعلامَ الوافدين إلى الله، والمنقطعين إلى المقام الإلهي، الذين رغبوا فيه عن كلِّ ما سواه، ولهذا عاشوا ويعيشون بلا أملاك شخصية سوى بيوتهم التي يأوون إليها، لا يلهيهم مال، ولا تنال منهم وظيفة، بل أخلصوا حياتهم لله، ونذروها لخدمة مجتمعهم، وتعليمه، وإرشاده متوكلين على الله، بشعور فياض وإيمان متين بأن ما عند الله خير مما في أيديهم.
ولهذا كانت مواعظُ الراحل رحمة الله تغشاه تفيض بمعرفة الله المعرفة الحركية الواعية، ولا تفتأ تذكِّر بأهمية إعمار القلوب بتقواه وخشيته، وكان يعيش حالة روحية غامرة، يثق في الله، وفي ألطافه، وتأييداته، في مختلف المراحل الصعبة التي مرّت بها اليمن عموما ومحافظة صعدة خصوصا، وكان نتيجة هذا الارتباط أن دلَّه الله على نور من نوره، وسرٍّ من أسراره، فتحدث ببعض الأمور المستقبلية، فكان صادق الحدس فيها، وكان نتيجة ذلك أيضا أن منحه الله ودا عظيما من المؤمنين، وغمره بمحبة الأولياء والأقربين.
مؤخرا قبيل رحيله اقتضت ظروفه الصحية الانتقال إلى أحد المشافي، فاستأذنه أولاده بذلك، فقال: ألا أدلكم على خير من ذلك، وهو الانتقال إلى الله!!، أما آن لي أن أذهب إليه، وكان ذلك مؤشرا على قرب رحيله سلام الله عليه.
ثالثا: العلم حياة
مرت فترة من فترات الانتعاش التجاري بمحافظة صعدة دعَتِ الفقيد الراحل إلى خوض ميدان التجارة، غير أن ذلك أثَّر على تحصيله العلمي، وعلى إكساب أولاده العلم، وشعر أنه لا يسلك الطريقة التي مضى عليها أهل بيته، فلطف الله به بأن أعاده إلى حلقات المساجد، والعكوف على متون العلم، ودقائق المعارف، وبلغ من إخلاصه أنه بينما كان في خضم نقاشات الدروس، وفي عمق دقائق المعارف مع تلامذته النابهين، فيأتيه رسولٌ من بيته يخبره بانعدام قوته وعياله ذلك اليوم، فلا يتغيّر له بال، ولا ينكسف لوجهه حال، ويعود لمراودة المعاني الغامضة، والقدح في الأفكار البديعة.
كان رحمه الله يتميَّز ككثير من أهل بيته بتدريس العلوم تدريسا ناقدا، يشجِّع طلابَه على عدم التسليم والتقليد، ويحفزهم على الجرأة في نقاش التلميذ لشيخه، ويرفع عنهم إصر وقيود الاحترام الفائض والتقليد الأعمى الذي يحجب كثيرا من القناعات، ويجفِّف أنواعا مختلفة من التفكير.
يحكي عنه طلابه كثيرا من المواقف والحالات التي يعيدون إليه فيها الفضل في تعلمهم، وحديثُهم عنه بضرْبٍ من الجلال، ومِسحة من الاحترام العميق، وعَبْرة من الأسى والحزن يبيِّن مدى تأثرهم به، وتأثيره فيهم، وما أولادُه النجباء وطلابه اللامعون إلا ثمرة طيبة ومرآة صادقة لجهوده التعليمية، والتربوية.
رابعا: التربية الفاعلة
ملك الراحل رحمة الله عليه كيمياء روحية جاذبة؛ لأن نفسه العظيمة كانت تتوزع على نفوس الآخرين، عطاءً ومحبةً وإرادةً للخير ونموذجًا للقدوة وأمثولةً للصالحات، سمعْتُه مرةً يجيب على سائلٍ سأله: كيف نجحْتَ في تربية ولدك فلان حتى وصل إلى ما وصل إليه؟ فقال: اتبعت فيه الأثر المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام إذ قال: "لاعب ابنك سبعاً، وأدِّبْه سبعاً، وصاحِبْه سبعاً، ثم اترك له حبله على غاربه"، وبغض النظر عن صحة نسبة الأثر إلى الإمام علي عليه السلام إلا أنه يكشف منهجا تربويا جديرا بنا اقتفاء أثره وتطويره في حياتنا التربوية والأسرية.
كان الرجل يستصحب منهجية أهل البيت في حياته الاجتماعية وتعامله مع المجتمع من حوله، وفاء وأدبا وأخلاقا وقيما وتقييما ومحبة فكان ذلك أعظمَ عون له على نفسه وعلى تربية المجتمع المحتك به على الأخلاق والقيم والمحبة والرؤية الشاملة.
خامسا: الإرشاد الحي
لم يكتف السيد الراحل بإسناد ظهره إلى إحدى دعامات مسجده في هجرة ضحيان العلمية، بل حمل عصا تسياره في مختلف البلدان، مدرِّسا، ومرشدا، وواعظا مفوَّها، مستبدِلا حياة الهدوء بالصخب، وحالة الدعة بالتعب، والأنس في منزله بالتنقل والغربة في جبال ووديان اليمن، وهكذا فليكُنِ العلماءُ عطاءً وحركةً وبركةً.
اتسم إرشادُه بعمق التحليل، ومتانة العبارات، وفخامة المعاني، وعلَت عليه مِسحة فلسفية، كانت تنحو به منحى العظة الخاصة والنخبوية، ومع ذلك لم يكن يعدَمُ العامة أن ينتفعوا بكثير من الأفكار التي كان يطرحها. وطرقت مواعظه كثيرا من الأمور المسكوت عنها، فأثارها، وحث على مصارحة النفس فيها، ونبّه على واجبات يتساهل فيها الناس، وأخطاء يقعون في إثمها.
تيسَّرت لي زيارته في أخريات أيامه، حيث كانت روحه تعلو وتهبط بين جنبيه، وقناة الهواء ملتصقة على وجهه وأنفه تعطيه طرفا من الأكسجين، ولا تمنع عنه قضاء الله وقدره، غير أنه رغم ضيق نفَسه إلا أن نفْسه كانت أوسع من فيحاء مِجْهَل، ثم لم يمنعه ما هو فيه من التعب أن يتاحِف ولدين لي اصطحبْتُهما معي، وأن يسألني عن أخوالهما ودراستهما، وأسبل عليهما أمزان الدعاء، ودعوات الصلاح والهداية والعلم والنصر للأمة.
سادسا: جهاد الظالمين
طارد لقب آل الحوثي حامليه في فترة من الفترات، فكان يقول لهم: لا تخافوا .. إن ما ترونه مصدر تبرُّمٍ اليوم سيصير غدا مدعاة فخر، فلا تبتئسوا، وكان على خلاف بعض نظرائه مستوعبا لحركة العصر، وواعيا سياسات الدول، ومؤمنا بسنن الله في خلقه، ونواميسه في عباده، بوحيٍ من قراءاته القرآنية، والتاريخية.
أيّد الثورة الشعبية وأفتى بالثورة على الظالمين، وتصدّر العلماء في مواجهة العدوان الغاشم، وحرّض الشباب على الجهاد ضده، وما برح يبشِّر بالنصر الأكيد، والحتمي ولو طال ليل العدوان والحصار.
سابعا: المحبة والمحبة الأخرى
ليس هناك أحدٌ عرفه إلا وتعلّق به وانشدّ إليه، وليس آخر أولئك أطباء المشافي التي نزل عليها في العاصمة صنعاء، تعلّق به أحدُهم فقضيت حاجاته التي كانت قد ماطلَتْه سنوات، فازداد تعلقه به، وولعه بخدمته، ولما سمع موعظته في إحدى المرات الأخيرة، خرج إلى غرفة مجاورة، وإذا به يبكي، فسئل عن سبب ذلك: فقال: هذا كلام مودِّعٍ آذن بالرحيل وأنا لا أطيق سماعه.
لقد كان الراحل عظيم المحبة لبني الإنسان، ويكتنز عاطفة حب فياضة تجاههم؛ وذلك سر محبتهم له، فالمحبة من طرفين أقوى أنواع المحبة.
كان عظيم الوفاء لأصدقائه، فتقريبا لم يخسر أحدا منهم منذ صباه، وإذا اشتكل عليه وعلى صديق له أمرٌ ما بادر بالإنصاف والإيثار والتنازل عن ما كان يوقن أنه حق له، فبادله الناس محبةً ووفاءً وتقديرا؛ ولهذا أخبرني أحد السادة العلماء أنه وهو يسارِع في تشييع الراحل ويهتم لأمره، إنما كان يفعل ذلك أولا للقيام بالواجب، وثانيا لأنه يعلم علم اليقين أن هذا أمر سيدخِل على حيِّ والده البهجةَ والسرور؛ لأنه كان صديقا له صداقة متينة، لا يعلم لها مثيلا.
هكذا هم علماء المجاهدين، ومجاهدو العلماء، وأعيان العترة النبوية، وأعلام علومهم الزكية، وقرناء القرآن، المترسمون منهج جدهم، والماضون في مرضاة خالقهم، كانوا دروسا لنا نستفيد منهم في حياتهم، ولا زلنا نستفيد منهم بعد مماتهم، وما كانوا إلا بشرا مثلنا، لكنهم سلكوا هذه الطرق الراضية، فما الذي يعجزنا أن نقفو آثارهم، ونخطو على درب خطاهم؟
(قل هذه سبيلي) أدعو إليها، وأناشد لاتباعها، وبالله التأييد، ومنه العون والتسديد.
- قرأت 88287 مرة