البعد الاجتماعي في ثورة الإمام زيد بن علي "ع" : حمود الأهنومي.
البعد الاجتماعي في ثورة الإمام زيد بن علي "ع"
الأستاذ/ حمود الأهنومي.
يعتقد البعض أن ثورة الإمام زيد بن علي جاءت باعتبارها ردة فعل غاضبة نتيجة الإهانة التي وجهها الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان في مجلسه إليه، كما يعتقد آخرون أن الحدة التي كانت من صفات الإمام زيد بن علي هي التي حملته على الخروج والثورة ضد هشام بن عبد الملك الذي كان على قدر كبير من التحلي بصفات رجال الدولة المحترمين..
ورأي ثالث يحمّل خصام الإمام زيد مع بني عمومته أولاد الحسن عليه السلام واستغلال الوالي الأموي لتوسيع الشقة بينهم مسؤولية خروجه، ورأي رابع أنه استُخِف من قبل أهل الكوفة وكانوا أهل غدر، وفي كل هذه الآراء ما يشير إلى التسطيح والسطحية التي تقف خلفها، ويؤكد الكاتب أهمية استبطان حالة المجتمع وأدبياته السائدة والغوص في باطنه للتعرف على الجذور التي تقف خلف الحركات التاريخية ونتائجها وهو الأمر الذي يجري عليه المؤرخون الجادون، ولا يجوز تناول أحداث التاريخ بنوع من الاستخفاف والاطلاع الخفيف والخروج بنتائج خفيفة أيضا لا تعكس واقع الحادثة التاريخية.
إن هناك أسبابا وعوامل وأهدافا مقدسة كانت وراء ثورة الإمام زيد بن علي وحركته الجهادية، ويطول بنا البحث لو استقصيناها على نحو كامل، وستقتصر في هذه المقالة على البعد الاجتماعي لهذه الثورة، والتجوال في أنحاء هذا البعد يشير ولو بالقياس إلى الأبعاد الأخرى، ويحسن التنبيه بأن أي محاولة لتسطيح التاريخ على ذلك النحو تعتبر تأصيلا خطيرا للفوضى، وستعطي وعيا تاريخيا مسطحا، ينتج عنه حركة تاريخية منحرفة أيضا؛ ولهذا فالمطلوب من الباحثين دراسات جادة تضع جميع عناصر البحث المؤثرة في الحدث على مائدة واحدة لتظهر الصورة الأقرب إلى الصدق التاريخي، لا سيما حين ندرس تاريخ العظماء من هذه الأمة الذين لا زال تأثيرهم باقيا حتى اليوم.
وسيحاول الكاتب أولا وضع خلفية اجتماعية واقتصادية لما كان عليه ذلك العصر، وللعلاقة الاجتماعية والاقتصادية التي كرّسها الحكام الأمويون بينهم باعتبارهم حكاما وبين أبناء الأمة الإسلامية باعتبارهم محكومين، ثم العودة إلى البرنامج الثوري الجهادي للإمام زيد عليه السلام الذي يتصل اتصالا كبيرا بالوضع الاجتماعي المعاش.
من المعروف تاريخيا أن بني أمية انتزوا أمر هذه الأمة بالمال والسيف منذ معاوية، ومن شأن المغتصبين للحكم أن يظلوا قلقين من أي محاولات تصحيحية، ولهذا ظلوا يستخدمون أدوات ووسائل تضمن استمرار الحكم وتكرسه في أيديهم، ومن هذه الأدوات المال والأرض والضرائب والعقاب بالحبس والقتل والتلاعب بالوضع الاجتماعي والقبلي ضعة للمخالفين ورفعة للموالين، ولم يترددوا في استخدام أبشع الجرائم إذا ما اقتضى الأمر للحفاظ على كراسيهم كالذي فعلوه يوم الطف بسيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، ويوم الحرة بأبناء الأنصار والمهاجرين.
وبالعودة إلى أيام الفتوحات للعراق والشام وفارس، ففي العراق وإيران مثلا وجد الخليفة عمر بن الخطاب الأرض المفتوحة عنوة شاسعة ومترامية الأطراف، ولم يعمل بالمبدأ الإسلامي المعروف في هذا النوع من الأراضي وهو تخميسها وتوزيع ما بقي منها على الفاتحين، بل أمر بضمها إلى ملكية بيت مال المسلمين على أن يعطي الفاتحين أعطيات ثابتة، تعوضهم عن بعض حقوقهم[1]، وبهذا كانت غلات الأراضي المفتوحة في العراق تذهب إلى بيت مال المسلمين الذي كان تحت تصرف الخليفة، ولما جاء الخليفة عثمان بن عفان ترك خصوصا في سنواته الأخيرة حبل بني أمية -وهم رهطه- على غواربهم[2]، ونقم عليه المسلمون أحداثا منها أنه أعطى من بيت مال المسلمين خمس خراج أفريقية لمروان بن الحكم، وأقطع للمقربين منه قطائع ضخمة، حتى قال قائل ولاته في سواد العراق إنه "بستان قريش"؛ مما أثار حفيظة بعض الفاتحين[3]، وأدّى ذلك كله إلى علاقة سيئة مع الدولة ممثلة في الخليفة عثمان وولاته من بني أمية انتهت بمقتله ليتخذه معاوية قميصا للوصول إلى الحكم، والتمرد على الخليفة الشرعي أمير المؤمنين علي، لتدخل البلاد الإسلامية حربا أهلية مؤسفة، بين فئة أهل الحق علي ومن بقي من كبار الصحابة في جانب وبين معاوية والفئة الباغية من جانب آخر.
ولما استقر الأمر لمعاوية كانت له نهمة كبيرة في امتلاك الأراضي في الحجاز والعراق والشام، ومن ذلك تلك الأراضي التي كانت للأسر الحاكمة والنبلاء والإقطاعيين الكبار الذين هرب جلهم أو قتل أثناء معارك الفتوحات، وكذا أراضي معابد النار، اصطفاها الخليفة معاوية لنفسه وخاصته، ولهذا سميت بالصوافي، وتصرّف فيها كما يحب، ويذكر المؤرخ القومي الدكتور عبد العزيز الدوري أن الأمويين وفي مقدمتهم معاوية أقطعوا تلك الأراضي لأنصارهم وأقربائهم[4]. مما يعني حرمان الأغلبية من عامة الناس.
وصارت التملكات[5] الكبيرة للأراضي ظاهرة شائعة في البيت الأموي وولاتهم، ويذكر منهم مثلا مسلمة بن عبد الملك أمير العراق (في 102-103هـ) الذي استصلح أراضي واسعة في السواد كانت المياه قد غمرتها أثناء ثورة ابن الأشعث فاستكثر الخليفة الوليد بن عبد الملك المبلغ المقدّر في إصلاحها وهو ثلاثة ملايين درهم، فتقدم مسلمة بعرض استصلاحها لنفسه، ووافق الوليد، فاستصلح أراضي شاسعة منها، وحفر لها نهرين واسعين عرفا بـ(السيبين)، كما كان لوالي هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري على العراق (في السنوات 105هـ - 120هـ) نشاط واسع في استصلاح الأراضي وامتلاكها في السواد حتى بلغت غلة أراضيه ملايين الدراهم سنويا، بل كان يستطيع التأثير بغلاته على أسعار السوق[6]، ولهذا ورد في وثيقة تاريخية أوردها المؤرخ الطبري تتضمن مرسوما خليفيا قضى بمنع خالد القسري من بيع غلاته "حتى تباع غلات أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك"[7]. وهكذا أصبحوا يتحكمون حتى في مآكل الناس ومصائرهم.
هشام نفسه احتجن أراضي واسعة في أنحاء مختلفة من المملكة وكانت من أهم مصادر وارداته[8]، وتذكّر أحد الواعظين بعد أفول شمس الدولة الأموية حالة هشام وأولاده فقال: "وولي هشام بن عبد الملك ثماني عشرة سنة ما منها سنة إلا وهو ينشيء فيها عيوناً ويتخذ فيها أموالاً ويقطع لولده القطائع، ولا أعرف اليوم من ولده رجلاً يشبع"[9].
من جانب آخر حين وصل الأمويون إلى الحكم استحضروا الروح القبلية، مضافا إليها العصبية العربية، معجونة بالتأثيرات البروتوكولية التي تأثروا بها من البيزنطيين الذين خلفوهم في سوريا، وأصبح الشيخ العربي بعقلية أبي سفيان الذي لم تهذبه المبادئ الإسلامية يجلس على كرسي هرقل، ويحكم الأمة التي تدين بدين الإسلام بالطريقة التي يرى فيها المصلحة لدولته من دون نظر إلى موقف الإسلام من تلك الطريقة، وكانت أحد أدواته على التحكم في الناس هو استمالة شيوخ القبائل، الذين سموا بالأشراف، واعتبارهم مراكز القوى المتحكمة في الأمصار، وقد أغدقوا عليهم الأموال، وأرهقوهم بالكرم من بيوت أموال المسلمين، فكانوا نعم الظهير والمؤازر لهم، وفي مقابل ذلك اعتبروا مسؤولين من أي حدث يحدثه أفراد قبائلهم، وقد استعان بهم زياد ابن أبيه في حكم العراق، ثم ابنه عبيدالله في إجهاض ثورة الحسين وقتله، ومن قبلهم معاوية الذي كان بلاط قصره يحفهم بالإسعاد والاحترام وحين يعودون منه يكون قد نالهم كرم (أمير المؤمنين!! معاوية) بشيء لا تستطيع قلوبهم معه إلا أن تحبه[10].
ومع مرور الوقت حصلت فجوة بين هؤلاء الأشراف وبين عامة قبائلهم؛ حيث أن الأشراف اتجهوا إلى العناية بالأرض التي أقطعتهم إياها السلطات من خلال وكلائهم، واتجهوا في التمتع بالأموال التي يتقاضونها من قبل السلطة، فتكرّست الأموال بأيديهم بينما بقي عامة قبائلهم يكابدون الفقر ويصارعون المرض والحاجة، وحين نصل إلى فترة الحجاج (75هـ - 95هـ) نجد انفصاما واضحا بين الأشراف والعامة بسبب الفجوة الاقتصادية، ورأى الحجاج أن الأشراف لم يعد لهم تأثير واسع على قبائلهم، فأنشأ مدينة واسط وأقام فيها حامية عسكرية مجلوبة من الشام، اعتمد عليهم في فرض سيطرته على القبائل[11].
ونستطيع أن نجد قلقا واضحا لدى هشام بن عبدالملك (ولي من 105هـ - 125هـ) من هؤلاء الأشراف حينما تخوّف من إرهاصات لثورة يقودها الإمام زيد بن علي، فأمر واليه يوسف بن عمر أن يستدعي الأشراف ويتوعدهم بالعقوبة في الأبشار، واستصفاء الأموال منهم، كما توقع أن من كان منهم له عقد من ذلك فإنه سوف لن ينصر الإمام زيدا[12]، ويعزى السبب في خفوت تأثير الأشراف لما ذكرنا سابقا، ولتغلغل المبادئ الإسلامية التي نادى بها أهل البيت وعمّدها الإمام الحسين بن علي بدمه في كربلاء في عقول الناس شيئا فشيئا، ولقيام مدارس إسلامية تدرس الحديث والسيرة والفقه تعتمد تلك المبادئ الإسلامية طريقة ومنهجا؛ الأمر الذي أدّى بالمقابل إلى انحسار المبادئ القبلية التي اتكأت عليها الدولة الأموية في حكم المسلمين.
استدعى تعامل الأمويين مع الأرض على ذلك الشكل بالضرورة جبر الناس وعامتهم للعمل سخرة في هذه الأراضي الشاسعة لإحيائها وزراعتها، ولهذا نجد من برامج الثورات التي اندلعت آنذاك المناداة بالدفاع عن المظلومين والضعفاء، والحكم بكتاب الله وسنة رسول الله ونجد هذا واضحا في برنامج الإمام زيد كما سيأتي، وفي برنامج ثورة الحارث بن سريج في خراسان[13]، وجميع الثورات التي تنتمي لهذا العصر.
بل وحتى في برنامج ثورة الخليفة الأموي يزيد بن الوليد بن عبدالملك ضد ابن عمه الخليفة الوليد بن يزيد بن عبدالملك سنة 126هـ نقرأ برنامجه الذي وعد به الناس بعد تنصيب نفسه خليفة، وفيه ما يبين المظالم التي كان يعاني منها الناس، والذي يقول فيه: "أيها الناس إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر، ولا أكري نهرا، ولا أكثّر مالا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلدة إلى بلدة حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل فضلة نقلتها إلى البلد الذي يليه، ولا أجمركم[14] في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم؛ وأن لكم أعطياتكم عندي في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم"[15].
ومن هذا البرنامج يتضح أن القضية الاجتماعية والاقتصادية كانت مستفحلة الشرور، وتبين مدى الأثرة والاستبداد الذي وصل إليه الحاكم الأموي في احتجان الأراضي والاستحواذ على الأموال العامة وتوزيعها على الأقارب، وأخذ الأموال من الأمصار إلى الخزينة في العاصمة، واحتباس الجنود في الثغور لمدد طويلة، والتضييق على المعاهدين، والانصراف إلى حياة اللهو والشهوات وترك إدارة الدولة والتقاعس عن حل مشاكل المواطنين، والتلاعب بالمرتبات والعطاء، وسياسة التمييز الطبقي بين فئات المجتمع.
وتذكر بعض المصادر اهتمام هشام بإدارة مملكته وعظيم عنايته بالاطلاع على أحوالها ودواوينها، وأنه كان مثار إعجاب الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور[16]، ومن المفيد التذكير أنه كان يجمع الخليفتين العداءُ العميق ضد آل أبي طالب بسبب الخوف على السلطة كما يجمعهما التورط في دمائهم، والبخل الشديد الذي حكيت عنه القصص الكثيرة، غير أن هناك ما يبين أن هذا الاهتمام لا يخلو من شائبة الاستبداد واستخدام أدوات قذرة في التسلط، والزهد في جريمة للهوس في جريمة أخرى، فهذا هشام علم أن أحد أولاده كان يميل إلى الفاحشة، فعزله عن عمله، وقال له: "أيزني القرشي؟ أتدري ما فسق القرشي وفجوره؟ إنما هو أن تأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتقتل هذا وتأخذ مال هذا"[17].
لقد كان الاستحواذ على المال وجمعه شهوة هشام، لكن شهوة الخليفة الذي خلفه وهو الوليد بن يزيد بن عبدالملك كانت في الزنا بالمحارم والفواحش وشرب الخمر وسماع القيان وهي تغنيه، وقد أزمع مرة أن يجمعهن ليغنين له على ظهر الكعبة استخفافا بالأمة التي كان يوجد فيها[18]، ولما عيّره عمُّه هشام مريدا منه أن يتنازل عن ولاية العهد لصالح أحد أولاده، فسأله عن دينه، أجابه الوليد قائلا:
يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفاً وممزوجة ... بالسخن أحياناً وبالفاتر
وأبو شاكر هو ولد هشام وكان ممن يشرب الخمر أيضا ويشتهر بذلك[19].
وإذا كان هذا وضع الحكام فإن وضع الرعية كان سيئا جدا، ولهذا فقد كان العامة من الناس هم وقود الثورات دائمأ، وقد توقع هشام نفسه أن من سينصر الإمام زيدا إذا ما ثار عليه هم "الرعاع وأهل السواد ومن تنهضه الحاجة" وهم جميعا من الفئات المسحوقة اقتصاديا واجتماعيا، وأهل السواد هم من يعملون فيه أكرة وفلاحين وجرارين، وكان من إصلاحات عمر بن عبدالعزيز أنه منع السخر[20]، وهي عبارة تشير إلى ما كان يمارسه بنو أمية إكراها لعامة الناس وللطبقة المستضعفة فيهم بالعمل في الأرض المملوكة للأمراء والملوك مقابل إعالتهم، أو مقابل أجور سخيفة جدا.
بل إنه وصل شر الاستبداد إلى الطبقة الأرستقراطية وأبناء الأشراف؛ إذ أنهم لما تضررت مصالحهم قادوا ثورات عنيفة ضد الحكم الأموي رغم أنهم وآباءهم كانوا من أنصار السلطة المخلصين، ولهذا لا غرابة أن قاد هذا النوع من الناس الثورات ومنهم عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث قاد ثورة في سجستان، واستولت على العراقين، وكادت أن تطيح بالحكم الأموي، ونصرها الفقراء وأجج أوراها القراء والفقهاء، وكان أحد أسبابها هو اقتناعهم أن الحجاج بن يوسف الثقفي حين أخرجهم لغزو سجستان واستحثهم على مهاجمة الأعداء إنما أراد إقحامهم في المهالك، كما كان يجمّرهم (يبقيهم مددا لا تحتمل في الثغور)[21]، ومن الأسباب أيضا الوضع المقيت الذي كانت تفرضه السلطة الأموي على المسلمين من غير العرب، وهم من سموا بـ(الموالي)، ومن العوامل أيضا إعادته فرض الخراج على الأرض الخراجية التي حازها العرب وأصبحت في مفهومهم أنها عشرية، ومنها إجباره المسلمين الجدد من أهل الذمة على تسليم الجزية حتى لا تتأثر الخزينة العامة[22]. كما قاد المطرف بن المغيرة بن شعبة ثورة دعا فيها هو الآخر إلى الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[23].
وقدِم على هشام بن عبدالملك وفدٌ فيهم رجل من ذرية عمار بن ياسر، ولما استنبأه عن نفسه أخبره، فقدح الشر في نفس هشام الذي نسي أنه حاكم المسلمين، وغلبه شعور الحقد والكراهية ضد ذراري أنصار علي بن أبي طالب الذي كانوا يكرهونه، وكانوا يعاقبون الذرية بما جاء به الأجداد، فتمثّل هشام قائلا:
ترجو الصغير وقد أعياك والده ... وفي أرومته ما ينبت العود
وقال: لا والله لا تنال مني خيراً أبداً ما بقيت[24]. وهكذا عاد ربيب (آل ياسر) وحفيد عمار صفر اليدين من حقه في بيت مال المسلمين؛ بذنب جده عمار لأنه نصر عليا عليه السلام في صفين.
ويتبين لنا من خلال تصوير يوسف بن عمر المدى الذي وصل إليه أهل بيت رسول الله من الحاجة والفقر، حتى أنه قال في رسالته إلى هشام يحرضه ضد الوالي قبله خالد القسري: "إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعا حتى كانت همة أحدهم قوت عياله، فلما ولي خالد العراق أعطاهم الأموال فقووا بها حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة"[25]، ويتضح أنه أراد الكيد لخالد بمبالغته هذه، ولكنها تشير إلى العقلية الحاكمة والطريقة التي حكم الأمويون بها الناس المبنية على سياسة الإفقار، والتمييز العنصري، لينشغلوا بأمور المعيشة عن القيام بما يجب عليهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وصل بهم الأمر أنهم رفضوا إسلام أهل الذمة، وأرادوهم أن يستمروا في الكفر ليس لشيء وإنما من أجل ما يحصلون عليه من ضريبة الجزية، وتكرر هذا في أكثر من مكان وزمان، فقد أمر الحجاج بتسلم الجزية ممن أسلم منهم، وهو ما ساهم في النقمة عليه والخروج في ثورة ابن الأشعث[26]، ثم تكرر هذا في عهد عمر بن عبدالعزيز، ولم يكف عماله أن يعلموا أنه شخص يختلف عن من سبقه واضطلع بمهمة الإصلاح، لأن الممارسات السيئة والثقافات المغلوطة تغلغلت فيهم[27]، وهو أمر وعَد لاحقا يزيدُ بن الوليد أيضا بعدم انتهاجه على خلاف أسلافه، كما تقدم.
وفي جانب آخر اعتبر المؤرخون الدولة الأموية دولة السيادة العربية، ومن الواضح أن سلطة هذه الدولة كانت تعتمد على دوائر نفوذ اجتماعية متراتبة من الأسفل إلى الأعلى يجمعها الولاء والإخلاص للدولة، والمصلحة المالية، والاستئثار على الأرض، والحصول على العطاء من ديوانه، وكونهم محاربين جميعا في مجتمع محارب في الشرق والغرب، والنجاة من تضييق الأمويين وسجنهم وسيوفهم وسياط تعذيبهم، وكانت القبيلة العربية هي القاعدة العريضة للقوى البشرية التي حكمت من خلالها الدولة الأموية، غير أن هذا الوضع لا يعني تساوي العرب في الحقوق والواجبات، بل كان وضعا تراتبيا، يبدأ من القاعدة العربية الموالية وينتهي إلى الأعلى بالبيت السفياني الأموي، ثم المرواني الأموي، الذين حرصوا على إقناع الناس على أن وصولهم إلى الحكم كان بقضاء الله وقدره، وأن الأمر لله يضعه حيث يشاء[28]، ليغلقوا باب الإمكانية في التغيير، ولئن نجحوا في أول الأمر فإن انتشار الفكرة القائمة على القول بحرية اختيار الإنسان لأفعاله في أيام عمر بن عبدالعزيز وما بعده والتي روّج لها الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي والإمام زيد وأهل البيت وكذلك المعتزلة جعلت أبواب الثورات على ظلم الأمويين مشرعة بدون صد فكري كابح.
هذه العصبية العربية في حكام هذه الدولة قضت بحرمان جميع الفئات المسلمة من غير العرب، واعتبارهم مواطنين من درجة ثانية، فقد حرموا من العطاء، كما حرموا من حق المشاركة في الجهاد، إلا إذا أرادوا المشاركة المجانية، وبهذا صار حيازة أموال السواد حكرا على العرب، الذين أوكلوا إلى نواب لهم إدارتها عبر فلاحين وأكرة مستأجرين من الطبقات المسحوقة، وتفرغوا هم للعمل العسكري، ولكن مع كثرة العسف وزيادة الظلم وقلة الإنصاف خربت المزارع، وغمر بعضها المياه، ولا يستطيع أن يعمرها مرة أخرى إلا من كان ذا مال، وهؤلاء قل منهم أن يوجد خارج البيت الأموي أو ولاتهم، الأمر الذي كرّس كما تقدم الأراضي في يد الطبقة المالكة.
وينقسم الموالي إلى قسمين الأول وهم القلة منهم من كان رقا فأعتق وصار مولى لسيده الذي أعتقه، والكثرة وهم أولئك السكان الأصليون في جميع أرجاء الدولة الإسلامية الذين دخلوا في دين الله، ولكن لأنهم كانوا من جنس غير جنس العرب فقد حرموا تلك المميزات التي كان العربي يحصل عليه، فلجأوا إلى التحالفات مع القبائل العربية لقاء منافع متبادلة مثل إسهام الموالي في دفع الديات والمشاركة في القتال، وفي الأمور العامة للقبيلة أو العشيرة، يقابل ذلك حصولهم على الإسناد الاجتماعي والرعاية[29].
ومع التطور الحضري في المدن الجديدة في أرجاء الدولة وبقاء العربي عسكريا محاربا ومسجلا في ديوان الجند ومحتفظا بأدبياته القبلية التي تكره الاضطلاع بالمهن الحرفية فقد جعل الباب مفتوحا أمام هذه الفئة من الناس (الموالي) وأمام غيرهم من أهل الديانات الأخرى ليكونوا عمدة المجتمعات المدنية فيها، فاشتغلوا في التجارة وفي الصيرفة، ومنهم الباعة وأصحاب الحرف والمهن المختلفة، وبهذا صاروا عماد النشاط الاقتصادي والتجاري[30]، فأفسح المجال لهجرة أعداد كثيرة منهم من القرى ومن الضياع الزراعية، هربوا منها إلى المدن التي وفرت لهم مجالا حرفيا يجعلهم أكثر استقلالية، فأثّر سلبا على الأراضي الزراعية وهو ما حمل واليا مثل الحجاج أن يختم على رقابهم، ويعيدهم إلى القرى للعمل كرها في الأراضي والضياع التي كانت حيازتها للأمويين وولاتهم وللعرب المقربين من السلطة كما تقدم[31].
لقد شارك الموالي في الحروب التي كانت تشنها الدولة الأموية، لكنهم لم يسجلوا في ديوان الجند، وكان ذلك مثار شكواهم وانضمامهم إلى الأحزاب السياسية، وإلى الثورات ضد الأمويين، ويمكننا فحص ذلك في برامج الثورات الخطيرة في الشرق والغرب، ونجد مثلا حتى في الغرب أن البربر انضموا للجماعات الثائرة على هشام في المغرب العربي لأجل هذا السبب[32]، كما نجد في ثورة ابن الأشعث المولى والعربي؛ إذ جمعهم الظلم الأموي في بوتقة واحدة.
واشتهر كثير من الموالي في ميدان العلم والمعرفة، وتشبعوا بروح الإسلام التي نادى بها أهل البيت وعلى رأسهم الإمام علي بن أبي طالب وتلامذته وأهل بيته، وما حملته الذكريات إليهم عن سعة عدله وكرهه للظلم والمحاباة والتمييز العنصري. وأدرك هؤلاء الموالي خطأ الأمويين وانحرافهم عن دين الإسلام الذي يأمر بالمساواة في الحقوق والواجبات، ومنهم سعيد بن جبير الذي استشهد على يد الحجاج بعد القبض عليه بسبب ثورته مع ابن الأشعث، ومنهم الحسن البصري الواعظ والزاهد المشهور، كما تبنى بعضهم الأفكار التي تطلب العدل وتنشد الحرية، وظهر لهم تأثير قوي في أيام عمر بن عبدالعزيز، واعتمد عليهم في رد المظالم إلى الناس من بني أمية، ومنهم غيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، لكنهما ما إن غاب عمر بن عبدالعزيز عن مسرح الأحداث حتى قبض عليهما الأمويون، ولفقوا عليهما تهم الكفر والدهرية، وعذبوهما ثم قتلوهما قتلة شنيعة[33].
وبالمناسبة فإن عمر بن عبدالعزيز كان قد قرر إنصاف مقاتلة الموالي بمساواتهم للعرب في ديوان الجند[34] استنادا إلى المبدأ الإسلامي الذي لم يهتد إليه سلفه ولا خلفه أيضا.
لقد قدّم عمر بن عبدالعزيز في فترة حكمه القصيرة (99هـ- 101هـ) نموذجا مختلفا في الحكم عن ما كان عليه أهله، لقد قارب الملامسة للروح الإسلامية وللمبدأ الإسلامي الذي غيبه أهله عن واقع حكمهم، جاء عمر ليثبت قطعا أنهم كانوا على خطأ من أمرهم وسياساتهم الباطلة، وعمر بن عبدالعزيز بإصلاحاته يمثّل دليلا واضحا وإدانة كافية للرد على من يهوى هوى الظالمين من بني أمية، والمكتفي بالتغني بمآثر حروبهم التي شنوها باسم الفتوحات الإسلامية، والتأول لجرائمهم في كربلاء والمدينة وغيرهما، ومن أولئك الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (تاريخنا المفترى عليه).
حين ثار الإمام زيد لم يكن غائبا عن هذه الحيثيات وما كانت تعانيه الأمة من ويلات تحت هذا الحكم الظالم، وحين نقرأ برنامجه الثوري الواضح وأهدافه المعلنة ندرك معنى ومغزى ما نادى به، لقد أعلن برنامجه الثوري ملامسا الحاجة الاجتماعية والاقتصادية للأمة، وكان برنامجه نبضا دافقا لروح الإسلام المخنوقة من قبل الحكام، قال البلاذري: "وكان (الإمام زيد) إذا بويع قال: أدعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء على أهله، ورد المظالم، وإقفال المجمّرة، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب، أتبايعون على هذا ؟ فيبايعونه ويضع يده على يد الرجل، ثم يقول: عليك عهد الله وميثاقه لتفين لنا، ولتنصحنا في السر والعلانية، والرخاء والشدة، والعسرة واليسرة"[35].
هذا البرنامج الثوري الواضح يجيء إذن معالجة بينة للانحراف السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم آنذاك، ويرد ردا واضحا على من خمّن السبب بأن خصاما شب بين الإمام زيد وبني عمومته من أولاد الحسن على ولاية أوقاف آل علي، أو أن أهل الكوفة هم من استغواه واستخفه للثورة ثم خذلانه في تكرار للمأساة الحسينية، أو لقوة حدته، أو لأي سبب آخر، وهي مقولات تبتعد عن هذا الواقع الذي عرضناه في جزئية واحدة، كما أنها تعكس مفهوم هؤلاء عن ثورات أهل البيت، وأنها مجرد نزوات شخصية أو هبات عاطفية لا تستند إلى وعي إسلامي حاكم لها.
لقد كانت ثورة الإمام زيد ثورة أجمعت عليها الطوائف المختلفة، وجاءته البيعة من مختلف الأمصار، كما نصره الفقهاء والعلماء، وسميت لذلك ثورة العلماء.
ومما يبين المدى الذي وصل فيه تأثير المبادئ الإسلامية على حساب المبادئ القبلية أن هناك فجوة واضحة بين ولاة بني أمية في العراق مهْدِ الثورة وبين أهل العراق، ويبين أن الأمر تغيّر فلم يقاتل أهل العراق الإمام زيد بن علي كما كان عليه الحال في ثورة الإمام الحسين من قبله؛ إذ كانت الدولة الأموية قد جلبت لها مرتزقة من السند (باكستان حاليا) أطلق عليهم القيقانية، وكانوا يجيدون الرماية، وكانوا إحدى فرق الجيش الأموي في العراق الذي اشترك في حرب الإمام زيد، كما كان هناك جيش شامي، هو الذي اشتبك مع أنصار الإمام زيد[36]، الأمر الذي يعطي انطباعا بانحسار الولاء الأموي شبه الكلي من العراق، وأن الأمور ذاهبة إلى منحى آخر، وهو الانطباع الذي يؤكده خطاب يوسف بن عمر الثقفي والي العراق بعد قضائه على ثورة الإمام زيد، حين هدّد أهل الكوفة فيه بقطع زروعهم وإفساد أموالهم، واتهم جميعهم بأنهم لا يوالون أولياءه الأمويين ما عدا رجلا واحد منهم أشاد به[37].
ومن هنا يتبين أن أسبابا وظروفا مهمة حرّكت الإمام زيد بن علي وعوّل عليها، كما أن سبيله سبيل جده الحسين بن علي عليهم السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد حمد الله حين رأى الرايات تخفق فوق رأسه، ولا مجال الآن للحديث عن أسباب الإخفاق المادي في هذه الثورة إذ ليس موضوعنا الذي نتحدث عنه، وأما النصر المعنوي والقيام بما أمر الله فهذا أمر لا مرية في تحققه.
وما نختم به موضوعنا هذه الرواية التي تفيد أنه برز القائد الأموي من أهل الشام المدعو عبيدالله بن عباس الكندي فبرز إليه غلام حناط يدعى واصل، فضرب الكندي ضربة موجعة وقال له: "خذها وأنا الغلام الحناط"، فقال الكندي: والله لا أتركنك تكيل قفيزا بعدها، لكنه لم يستطع فعل شيء، وانهزم هاربا لا يلوي على شيء[38]، كما أن روايات تقول: إنه حين رمي الإمام زيد بالسهم في جبينه دخل دار الجرارين بالسبخة[39]، وهم من يجرّون الماء من النهر للسقي به.
هذا الأمر يشير إلى طبيعة المشاركة لهذه العناصر المجتمعية في الثورة على الظالمين، وأن الثورة أصبحت ثقافة عامة لدى مختلف فئات الناس، وأجزم أن هذه الثورة الزيدية هي التي عجلت بزوال الدولة الأموية بعد حوالي عشر سنوات كانت مليئة بالفوضى.
ويحضرني هنا شعر شاعر الخارج حبيب الهلالي وهو يتأسف لمقتل الإمام زيد، ويتهم أولاد درزة بالفرار عنه، قائلا: (أولاد درزة أسلموك وطاروا)[40]، و(أولاد درزة) مصطلح أراد به العامة من الناس، فسرهم الزمخشري بالخياطين، وفسرهم الفيروزآبادي بالسفلة والخياطين والحاكة[41]، وهو يأتي ضمن احتقار العرب لأهل المهن، والمهم أن ثورة الإمام زيد كانت تلبي طموح هذه الفئات من الناس، لتعبر عن انطلاقتها الواقعية.
ومما سبق يتبين أن ثورة الإمام زيد سنة 122هـ كانت استجابة لظروف موضوعية أخذت وقتها وحقها من التفاعل، وأن هناك ما يوجب أن تحصل ثورة حتى في هذا البعد، دعك من الأبعاد الأخرى، كما يتضح أثر ثورة الإمام الحسين في تغيير الأفكار نحو عودة الأمة إلى الدعوة للعمل بما في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي توسع دائرة الرفض للحكم الأموي الظالم، وفي التعجيل بزوالهم، كما تبيّن الهوة العميقة بين مبادئ الإسلام العظيمة والممارسات الأموية الخاطئة في صدر الإسلام فكان له ظلاله السلبية على الأفكار والمناهج السياسية اللاحقة، ومن تلك الممارسات المنهجية التي سلكها بنو أمية تركيز المال والأرض والسلطة في أيديهم وأيدي أعوانهم، والتنكيل بمن يخالفهم، وسياسة الإفقار والتجمير لكل من يخالفهم، بما يشير إلى أنهم كانوا عصابة لا هم لها إلا التنعم وتحقيق الرغبات الشخصية، وهو ما نجده في كل زمان وكل مكان، فمذهب الطغيان واحد، ودين الاستبداد لا يتغير، كما يتبين أن التعامل مع الناس وحقوقهم على أساس طبقي وشللي ليس من الإسلام في ورد ولا صدر، وأن البرنامج الذي أطلقه الإمام زيد لا زال المسلمون اليوم بحاجة إلى تطبيقه والتفاعل معه، وأن خيار هذه الأمة وعلماءها المؤتمنين هم قادتها الذين يناط بهم تحقق تلك الأهداف والغايات النبيلة، وأنه لا مناص للأمة إلى العودة للحكم بمنهج الله ورسوله، كما لا يجوز أن تذهب الأمة ومصلحوها وثوارها بعيدا عن الحاجة المجتمعية والاقتصادية لتحلق في أجواء مجهولة المصدر وعميّة الطريقة وضبابية الغاية، فالوضوح مطلوب في الثورات، لضمان تحققه في ما بعد الانتصار، وأخيرا ليس بالضرورة أن ينتصر المحق ماديا، فكم من ظالم انتصر لحظة تورطه في دم مصلح ثائر لكنه انهزم إلى آخر الدهر.
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 8847 مرة