قراءة تاريخية وفقهية في صلح الإمام الحسن "ع"
قراءة تاريخية وفقهية في صلح الإمام الحسن
إعداد الأستاذ/ حمود عبدالله الأهنومي
أبتدئ هذه الورقة بقول صاحب البسامة الذي يبين مكر الدنيا بأهل الحق
:وفي ابن هند وفي ابن المصطفى حسن.... أتت بمعضلة الألباب والفكرِ
سقته سمَّ ابن حرب حين سالمه.... وأمكنت من حسين راحتي شمرِ
ونكت ابن زياد بالقضيب له.... ما كان يلثم منه خاتم النذرِ
نفسي فداء قتيل الطف ما فعلت.... به البغاة وما لاقاه من ضررِ
ثم أحدد أولا المنهج الذي أمضي عليه في الصلح من حيث واقعته التاريخية فلا مكابرة للتاريخ حيث يجب أن تتم دراسته كما حصل لا كما نحب نحن، وما أتوصل إليه هو قراءة من القراءات التي قد تتعدد، ولكن أبينها ما كان مرتبطا بالدليل، تتناول هذه الورقة الصلح من حيث حيثياته وتعليل وقوعه وتسليط الضوء على دوافعه ونصوصه ومكاسب كل من الحسن ومعاوية فيه، وتعرض إلى وضع إمامة الحسن المنصوصة بعد الصلح وتجيب على السؤال هل كان الصلح الخيار الأفضل للإمام الحسن، ولماذا لم يسلك طريقة أخيه الحسين في سبيل الثورة والشهادة؟ وهل اختلاف دور الحسن المصالح عن دور الحسين الثائر يعود إلى شخصيهما أم إلى ظروف كل منهما؟
وعلى ضوء ذلك تحاول الورقة الإجابة عن ما إذا كان هذا الصلح سائغا وجائزا شرعا؟
وتختم بالدروس السريعة التي يمكننا أن نستفيدها من صلح الحسن سلام الله عليه
ويجب أولا تعريف صلح الحسن حتى لا يكون مصطلحا عائما، فلا تتوارد الأفكار على محل واحد في مدلوله
قصدت بصلح الحسن في هذه الورقة: هو إمضاء الإمام الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان لعقد الهدنة بينهما والمشروطة بشروط لا يمكن أن يفهم الصلح من خارج سياقها.
تمهيد عن وضع الكوفة قبل تولي الإمام الحسن الإمامة الفعلية:
بعد خدعة التحكيم عاود الإمام علي عليه السلام دعواته الجهادية ضد معاوية وأطلق نداءاته المتكررة التي يفيض بها كتابه (نهج البلاغة)، غير أن جيشه كان قد أخلد إلى الأرض واتبع هواه، وركن إلى الدنيا. وتبين النصوص الكثيرة جدا في نهج البلاغة وضعا متهاونا لهؤلاء المحاربين، امتلأ به قلب الإمام الطيب قيحا وصديدا.
يكفي في وصفهم أنه قال فيهم سلام الله عليهم: (فلو أنّ امرءا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما ، بل كان به عندي جديرا . فيا عجبا عجبا و اللّه يميت القلب و يجلب الهمّ ، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، و تفرّقكم عن حقّكم فقبحا لكم و ترحا ، حين صرتم غرضا يرمى : يغار عليكم و لا تغيرون ، و تغزون و لا تغزون ، و يعصى اللّه و ترضون فاذا أمرتكم بالسّير إليهم في أيّام الحرّ ، قلتم : هذه حمارّة القيظ ، أمهلنا يسبّخ (أي يخف) عنّا الحرّ، وإذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشّتاء ، قلتم : هذه صبارّة القرّ ، أمهلنا ينسلخ عنّا البرد ، كلّ هذا فرارا من الحرّ و القرّ ، فإذا كنتم من الحرّ و القرّ تفرّون ، فأنتم و اللّه من السّيف أفرّ.
يا أشباه الرّجال و لا رجال حلوم الأطفال ، و عقول ربّات الحجال . لوددت أنّي لم أركم و لم أعرفكم معرفة و اللّه جرّت ندما ، و أعقبت سدما . قاتلكم اللّه لقد ملأتم قلبي قيحا ، و شحنتم صدري غيظا ، و جرّعتموني نغب التّهمام (أي جرع الهم) أنفاسا ، و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان)
ويبكيك حين تسمعه بكلامه يستنزل الصم الصلاب ولا يسمعه من أصحابه هؤلاء، وهو يقول: (أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم . كلامكم يوهي الصّمّ الصّلاب ، و فعلكم يطمع فيكم الأعداء ، تقولون في المجالس : كيت و كيت ، فإذا جاء القتال قلتم : حيدي حياد ما عزّت دعوة من دعاكم ، و لا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، و سألتموني التّطويل دفاع ذي الدّين المطول . لا يمنع الضّيم الذّليل . و لا يدرك الحقّ إلاّ بالجدّ . أيّ دار بعد داركم تمنعون ، و مع أيّ إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور و اللّه من غررتموه ، و من فاز بكم فقد فاز و اللّه بالسّهم الأخيب ، و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل ( أي بسهم ليس له نصل ، فهو لا يصيب). أصبحت و اللّه لا أصدّق قولكم ، و لا أطمع في نصركم ، و لا أوعد العدوّ بكم . ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما طبّكم ؟ القوم رجال أمثالكم).
هذا يبين الوضع العسكري الذي كان عليه الإمام في أواخر أيامه، وهو يشير إلى خوَر العزيمة الذي أصاب القوم، وتكاسلهم، وتخاذلهم عن القيام بأمر الجهاد.
ثم استشهد سلام الله عليه ووضعه هو هذا الوضع.
في هذه الظروف وفي ظل هذا الوضع المؤلم جدا استلم الحسن سلام الله عليه الخلافة باعتباره الإمام المنصوص عليه بحديث الثقلين، وبحديث (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) ، الذي تلقاه أهل البيت سلام الله عليهم بالقبول، وأجمعوا على صحته والاحتجاج به، وإجماعهم حجة قطعية.
وبهذا يتبين أن شرعية إمامة الحسن سلام الله عليه مأخوذة من النص الشرعي، الذي لا يمكن تعطيله بأي حال من الأحوال، وإذا كان هناك مانع يمنع الإمام من القيام بعمله فإن المسؤولية ليست على ذلك الإمام وإنما تتوجه ضد من افتعل ذلك المانع، ومن المعروف أن من عقيدة أهل البيت جميعا أن الإمام المفترض بالنص الشرعي القطعي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو علي بن أبي طالب، ولكن هل تحقق هذا له؟ لا، وهو لا يتحمل مسؤولية من أخرج الأمر عنه.
ولايته منصوص عليها
كان هو عليه السلام وأصحابه يعتقدون أنه الإمام بنص الرسول ص حيث خطب قائلا: (ونحن أهل البيت الذين كان جبريل فيهم ينزل، ومنهم يصعد، ونحن الذين افترض الله مودتنا وولايتنا) ، ولما سمعه ابن عباس قام بين يديه، فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا له وقالوا: ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة فبايعوه ثم نزل عن المنبر . وفي كتابه إلى معاوية – وهو أحد الوثائق السياسية في ذلك العصر – أبان عن عقيدته التي ترى أن قريشا توثّبت على سلطان أهل البيت بعد وفاة رسول الله، وأنهم (أهل البيت) تركوا مقاومتهم حفاظا على الإسلام ومصالحه الكبرى وخشية أن يجد المنافقون والأحزاب مغمزا يثلمون الإسلام من خلاله، يقول له: (وقد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا صلى الله عليه وآله وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام فأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزا يثلمونه به أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده، فاليوم فليعجب المتعجب من توثبك يامعاوية على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف ولا اثر في الاسلام محمود) .
بل نقل ابن عبدالبر هو من المحدثين المعروفين لدى العامة إجماع العلماء أن الحسن كان يرى نفسه الأحق بالأمر .
وكان لا يقر بشرعية معاوية حيث ظل يعتبره مغتصبا للحكم وفتنة للأمة، وقد قال مرة من المرات الكثيرة التي تبرهن ذلك كما سيأتي، وكان معاوية حاضراً: «وليس الخليفة من دان بالجور، وعطل السنن، واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكن ذلك ملكٌ أصاب ملكاً يُمَتَّع به، وكان قد انقطع عنه، واستعجل لذته وبقيت عليه تبعته، فكان كما قال اللّه جل وعزّ: (وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين)» ، وهو سلام الله عليه يفرق في هذا الخطاب بين الخلافة الربانية التي يرتضيها الله وملك المتغلّبين المغتصبين.
هذا كله يبرهن أن ولايته على الأمة ولاية منصوص عليها
لقد أوضح والده عليه السلام أنه لا يجب على الإمام أن ينهض بالأمر إلا عند وجود الناصر، حيث قال: (ولولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظَّة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) وهذا هو منطق القرآن الكريم، (فاتقوا الله ما استطعتم)، و (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (إلا ما آتاها).
بما سبق يتبين أن البيعة التي أعطاها المسلمون في العراق والحجاز واليمن والبحرين وفارس كانت فقط بمثابة استعدادهم لنصرته، ولم يكتسب بها شرعية كونه إمام الأمة، حيث هو إمام مختار من الله بايعوا أم لم يبايعوا، وما إن استلم ملف الخلافة حتى برزت أمامه تلك التحديات الكبيرة التي واجهت أباه في آخر خلافته، من كون أهل العراق شيعا متفرقة، ففيهم الخوارج الناقمون ضد أبيه، وفيهم المحاربون الذين تحركهم المطامع، وفيهم المستبصرون الذين خلدوا للدنيا وراحتها، وفيهم المائلون والممالئون لحكم معاوية، كما كان فيهم أهل البصائر والاستعداد.
متغير جديد
رغم تضجُّر والده من تخاذل أهل العراق إلا أنه في آخر أيامه كان قد حشد جيشا اعتُبِر نواة للجيش المزمع إنفاذه إلى الشام لجهاد معاوية، كما أن هناك فئات من أهل العراق رأت في هذا الإمام الجديد شخصا آخر يمكن أن تعلّق آمالها عليه، لأنه ابن رسول الله، وتروي فيه أنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة، ومن هؤلاء بعض الخوارج الذين انضووا تحت لوائه، وقد جاء بعضهم إليه لمبايعته ولكن بشرط أن يذهب لحرب معاوية، فرأى هو أن هذا شرط يسلب الإمام صلاحياته ويوفّر لهم ولغيرهم الافتئات عليه في قراراته، فرفض بيعتهم، ثم ما لبثوا أن عادوا لمبايعته بحسب البيعة التي يرتضيها.
لم تكن إمامة الحسن تقتصر على حرب معاوية أو المصالحة معه؛ إذ كان لديها نشاط آخر، وفعاليات مختلفة أخرى، ومع ذلك فقد كان الحسن في بداية الأمر يجوِّز في هذا الصدد انتصاره كما كان يجوّز هزيمته، وعليه أن يترك الأمور لوقتها.
نص البيعة تتجلى فيه عبقرية الإمام وإرادته للجهاد
لقد حمل الإمام لواء الأمر وكان يستعد للقيام بما تمليه عليه حاجة الأمة ومصالحها واستعداداتها ومبادئها، ولأنه كما نعتقد لا يعلم تفاصيل ما سيحدث، مثله مثل غيره من الأئمة، فإنه كان بين الرجاء والخوف، وكان يجوِّز الانتصار على معاوية كما كان يجوِّز الهزيمة، هو بشر ويتحرّك بين البشر، وأنصاره ليسوا من الملائكة، وهو في ظروف قد تجعل ميزان الانتصار له أو عليه، وهو يعرف طبيعة أهل العراق الملتوية وكثرة مخالفاتهم ومشاجراتهم على ولاتهم، ولهذا وضع نص البيعة الذي يخوّله أن يتخذ القرار المناسب بحسب مصلحة الأمة حربا أو سلما، وبحسب ما يغلب على ظنه.
فكان يقول للرجل: تبايع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم سلْم من سالمت، وحرب لمن حاربت، فعلموا أنه يريد الجد في الحرب، فكان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاه بذلك عند وفاته، إذْ كان «لمَّا» انصرف من حرب النهروان جمع الناس وأمراء الأجناد، وأعلمهم أنه يريد الخروج إلى الشام وأنه لا يسعه غيره.
لقد كان أهل الكوفة منقسمين فمنهم من يرى الحرب، ومنهم من يرى الموادعة فتفتّقت عبقريته الإدارية وحكمته عن صيغة ذكية تعزِّز من قوة مركزه القانوني المعنوي في اتخاذ القرار المناسب، حربا أو سلما.
إجراءات تفيد أنه يعتزم الجهاد
من الطبيعي أن يتوقع الحسن أنه لا بد من المواجهة بين الخلافة الشرعية وبين المتغلّب معاوية، وأنه لا بد أن يقوم بدوره الجهادي، وقد اتخذ إجراءات تفيد اعتزامه الحرب ومنها:
1 - أنه زاد المقاتلة مئةً مئةً، وكان ذلك أول شيء أحدثه حين الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده عليه .
2 - أنه أمر بقتل رجلين في البصرة والكوفة كانا يتجسّسان لعدوّه عليه . وهي خطوة أراد بها حسم مادة النفاق والإفساد وقتل الهمم، وإيصاد الباب الذي تمر منه كشف عورات بلده إلى عدوه، كما تكشف عن حجم التحركات المعادية التي ينفذها أولياء معاوية في بلده.
لمحة تاريخية مختصرة
كان لا بد من نشوء صراع بين الإمام ومعاوية حتى يحسم الأمر لأحدهما، فكتب سلام الله عليه إلى معاوية كتابا يدعوه فيه إلى الدخول في السلم والطاعة وعدم منازعة الأمر أهله، وإلى جمع الكلمة وإصلاح ذات البين، فأجابه معاوية بدعوته هو إلى طاعته ؛لكونه أضبط للرعية، وأحوط على الأمة، شارحا مزايا نفسه التي تميز بها على الحسن، ومضمِّنا لكتابه عروضا منها أن لا يُستَولَى عليه بإساءة، ولا تُقضَى الأمور دونه، ولا يعصى في أمر( ).
وفشلت المراسلات بينهما وجاءت الخطوة التي لا بد منها حين يتمسك كل طرف برأيه فكتب معاوية إلى عماله بالنواحي، وفيه: «فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم، وقتلة خليفتكم، إن الله بلطفه وحسن صنعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده، فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ...»( ).
إن هذه الوثيقة تشير بوضوح إلى أن بعضاً من القيادات في جبهة أهل العراق قد راسلت معاوية، واستطاع بماله ودهائه وكيده شراء ذمم كثير ممن يتظاهرون بأنهم في جبهة الحسن، وهذا الموقف لأهل العراق يتناسب مع مواقفهم اللاحقة والمتخاذلة.
في الجانب الآخر من المعادلة كانت جبهة معاوية موحّدة وقوية، وقد حنكته التجارب والخبرة الطويلة في القيادة والتأثير على الناس، وتمرَّس في فن المراوغة وشراء ذمم الرجال، وكان كل ما يدور في العراق يصله عبر عيونه الذين دسّهم في العراق، ومما لا شك فيه أن معرفة المرء لعورات خصمه يكسبه قوة في الموقف ويوفر له خيارات كثيرة ومساحة أوسع للمناورة وفي اتخاذ القرار.
ولما تحرك معاوية قاصدا العراق وبلغ الحسن مسيره وأنه بلغ منبج( ) ــ تحرك لذلك فجمع أصحابه ودعاهم إلى الجهاد، وقد ظهر خور الناس وخذلانهم في استجابتهم الضعيفة لدعوته لولا تثوير عدي بن حاتم الطائي وبعض أشراف الناس لهم والذين ما فتئوا يؤنّبونهم ويلومونهم ويحرضونهم على الحرب( )، وقد استطاع الحسن بعد ذلك تجييش كتائب لا بأس بها لمقارعة معاوية( ).
بعث الإمام الحسن عبيدالله بن العباس بن عبد المطلب على رأس اثني عشر ألف مقاتل مقدِّمة لاحتباس معاوية بعيدا حتى يأتي الحسن وبقية الجيش، وكانت توجيهاته تقتضي أن يكون القائد عبيدالله بن العباس، فإن حدث به شيء فقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، ثم سعيد بن قيس الهمداني زعيم همدان اليمنية، غير أنه عليه السلام ـ وهو في طريقه للحاق بجيشه ـ وصل إلى ساباط المدائن( )، فسرت شائعة ـ لم يتضح مصدرها ـ مفادها أن قيس بن سعد قد قتل، فوثب بعض الناس على الحسن وانتهبوا حتى مصلاه من تحته( )، ثم لما مر في مظلم ساباط قام إليه أحد أنصار الخوارج فطعنه في فخذه بمعول فشقّه، ولولا دفاع أنصاره عنه لقتل، فحُمِل على سرير إلى المدائن، وأقام هناك يعالج جرحه( ).
وبلغ ذلك معاوية فأمر بإذاعة تلك الأخبار، فجعل أصحاب ابن العباس يتسللون إلى معاوية، وأُبلِغ الحسن أن بعضا من أصحابه قد راسلوا معاوية( ) ؛ففتّ ذلك في عضده، ثم لحق بأولئك أمير جيش الحسن عبيدالله بن العباس، وانسل ليلا إلى معاوية بعد أن وعده بألف ألف درهم (مليون درهم)( )، وأرسل معاوية عبدالله بن عامر وعبدالرحمن بن سمرة وعبدالرحمن بن أم الحكم إلى الحسن يدعونه إلى الموادعة ويزهدونه في الأمر، وأعطوه ما شرط له معاوية، وألا يتبع أحد بما مضى، وألا يُنال أحد من شيعة علي بمكروه، ولا يذكر علي إلا بخير، وأشياء أخرى( ). ثم وقعت المهادنة.
لماذا صالح؟!
هناك حيثيات كثيرة يمكن بها تعليل جنوح الإمام إلى المصالحة، ومنها:
1-اتضح بعد أن جدّ الجد وتبيّن الأمر أن جيش الشام كان يتفوّق على جيش الإمام عددا وعدة وعتادا وانضباطا وتسليحا واندفاعا، وتقول بعض الإحصائيات: إنه يفوقه في العدد بعشرات الأضعاف . مع ملاحظة قوة انضباطه ووحدة قيادته وقدرات قادته التضليلية الهائلة الغير المتورعة عن افتعال الدعايات الكاذبة.
2-الخيانة: لقد دلت حوادث كثيرة وبرهنت على أن جبهة العراق كانت تزعزعها الخيانات الكثيرة من رؤساء معسكر الحسن، وبدأت قبل تحرك الجيش العراقي لمواجهة القاسطين، وقد شهدنا أنواعا من هذه الخيانات منذ عهد والده حيث التحق بمعاوية بعض رؤساء العراقيين الذين لم يتحملوا الجادّة التي كان عليها أمير المؤمنين عليه السلام، وفي كتاب معاوية إلى ولاته قبل التحركات العسكرية ما يفيد أن هناك من رؤسائهم من قد وعده بالنصرة، وكما يحدثنا المسعودي في تاريخه مروج الذهب: «أن أكثرهم أخذوا يكاتبونه - يعني معاوية - سراً، ويتبرعون له بالمواعيد، ويتخذون عنده الأيادي»، ثم كانت قاصمة الظهر على يد عبيدالله بن العباس الذي كان قائد جيش الحسن على مقدمته، والذي يبدو هو الآخر أنه تسلل إليه تأثير الإعلام العسكري الذي مارسه معاوية.
3-الإعلام الحربي العسكري للعدو: لقد أدار معاوية - وهو الخبير المتمرس المتضلع الذي توفرت له الإمكانيات الهائلة والذي يتفلّت عن ضوابط الشرع – معركة إعلامية تثبيطية كبيرة ضد العراقيين، عملت على محاور كثيرة، منها إشاعة أن رؤساء العراق قد بايعوا معاوية وكاتبوه سرا، وإرساله إلى قواد الإمام الحسن كل على انفراده بأن القائد الآخر قد مالأه وأنه قد سلم الأمر، وبأن الحسن نفسه قد أزمع على مصالحته، أو أنه قد صالحه، أو القائد الفلاني قد قتل، ونشر الشائعات بشكل كبير جدا في صفوف جيش الحسن، حتى أن قائدا كبيرا مثل قيس بن سعد الأنصاري وقع في فخ تصديقها، حيث صدّق أن الحسن قد تنازل عن الخلافة وقام في جيشه خطيبا يخيّرهم بين القتال معه بدون إمام أو الدخول في بيعة معاوية . لقد خلط هذا الإعلام القوي أوراق جبهة الحسن وجنوده ولم يكونوا بمستوى حجم الشائعات التي انتشرت، ولا يبعد القول بأن معاوية كان يحارب على الجبهة الإعلامية والإغرائية المالية أكثر من حربه في الجبهة العسكرية.
لقد شقت دسائس معاوية طريقها إلى معسكر مسكن بقيادة عبيدالله بن العباس، وفي هذا المعسكر من أصحاب الحسن مخلصون ومنافقون، وآخرون يؤثرون العافية ويتمنون لو صدقت الشائعة الجديدة، وكانت الشائعة الكاذبة «أن الحسن يكاتب معاوية على الصلح، فَلمَ تقتلون انفسكم ». وبهذا انفتل القائد الطموح المحب للمال ابن عباس لمصالحة معاوية.
ومن تلك الشائعات أن قيس بن سعد قد قتل.
لقد كانت النتيجة أنه زرع شكوكا هائلة بين رؤساء العراقيين، وفيهم كثيرون يميلون إليه أو ممن وعدوه بالنصرة وخذلان الحسن.
إذن جيش هذه مكوناته وقابلياته للاختراق المعنوي والنفسي أنّى يكتب له النصر؟!.
لقد تزعزعت ثقتهم في أي أمل بالنصر وبالظفر.
4-شراء الذمم وزرع الشكوك: هذه قضية يعتبر معاوية مبدعا فيها بشكل عجيب، فقد كان يغوي كثيرا من القادات القبلية والعسكرية العراقية بمبالغ ضخمة وهائلة من بيت مال المسلمين لينضموا إلى جيشه، وكان يرسل إلى أحدهم ويقول له: لقد منحتك أرض كذا ، وقدّم لأغلب القادة سيلا من الوعود الكثيرة.
5- هذه الحرب الإعلامية القوية والإغراءات المسرفة فعلت فعلها في جيش الإمام الحسن، وعلى صوت الفوضى في معسكره الذي بدا تخاذله واضحا، فلم يتوفر عددٌ كافٍ من الجنود بعد المقدمة التي أرسلها الحسن بقيادة ابن العباس، وخرج الإمام ببعضهم ووصل إلى المدائن، وهناك انفجر وضع الجيش الذي دوّخت به شائعات معاوية، وقد مارس حتى أعضاء الوفد الذين جاؤوا إلى الحسن وهم عبدالله بن عامر وابن سمرة وغيرهم هذا التضليل وتظاهروا أن الحسن يزمع تسليم الأمر لمعاوية. في ظل هذا الاختراق الإعلامي الذي كان أكبر من إمكانات المخلصين من جنود الحسن اعتدى بعض أفراد الجيش الحسني والذين يعود انتماؤهم للخوارج على إمامهم في المدائن، لقد ضربه أحدهم الإمام بعوله، وأرادوا قتله، وانتهب آخر بعض أكسيته، ولولا سرعة نجدة أصحابه له لقتلوه، كل هذا بفعل تلك الدعاية الإعلامية المزلزلة.
6- انقسام جيش الإمام الحسن بشكل مثير: بدا واضحا من أول وهلة رغبة كثير من العراقيين في الموادعة، فحين طلب منهم الحسن في الكوفة الخروج للحرب، سكتوا، ولم يردوا إلا بعد أن وبّخهم وقرّعهم عدي بن حاتم الطائي، ولما خيرهم الحسن في المدائن بين الحرب وبين القبول بخطة معاوية التي أوصلها وفده السابق والتي وصفها بغير المنصفة صاحوا بصوت واحد، (البقية البقية)، وهو يبين المعنويات المتعبة والمثخنة بالإعلام المعادي وباختلاف نزعات مكونات الجيش. كما أنه اشتهر أن بعضا من مكونات هذا الجيش لما وصلتهم شائعة الصلح وهم في المدائن ثاروا رافضين له.
الخيار الأفضل والمتاح
كان في انتظار الإمام هناك ثلاثة سيناريوهات، إما خيار الحرب ثم الهزيمة المقطوع بها والتي سوف تسحق أهل البيت سلام الله عليهم، وتسحق شيعتهم في ظرف سيئ جدا، من حيث أن معاوية لا يزال أمره مستورا، ولم يكن قد ظهر بمخالفات كثيرة على الأمة، ولا يعرف فجوره إلا القلة القليلة، وقد دعا إلى الصلح، وبذل فيه استجابات مهمة جدا، لقد نشر معاوية بين المعسكرين أنه يمد يد الصلح، وأنه لا يريد الحرب، وأنه مع السلام ومع حقن الدماء، ولعب لعبة ماكرة مضت في عقول الناس، وترددت في أقوالهم، فحين يصر الإمام الحسن على الحرب التي يعلم سلفا أنها خاسرة إنما يعتبر ضربا من الانتحار الذي لا يمكن لأحد أن يتعاطف معه، وقد صوّره معاوية بصورة الباغي المستقتل، وأجزم أن معاوية سيصل إلى روحه سريعا من خلال تجنيد أهل الأطماع والذين ظهروا كثيرا في الجيش العراقي، وبهذا يكون دم الإمام الحسن وشيعته قد طل في معركة خاسرة لا أحد يتعاطف معه فيها,
السيناريو الثاني هو الانسحاب وترك المعركة مفاجأة، بدون توضيح موقف، كما فعل الزبير بن العوام في معركة الجمل، وهذا أيضا من وجهة نظري سوف يجعل سيف معاوية مصلتا على رقاب الشيعة والعراقيين ومن شاركوا في حرب صفين، إنه سيدخل بدون مقاومة فعلية ولا أخلاقية متمثلة في صلح مثلا إلى العراق فيعيث فيه فسادا، ستكون دماء الجميع هدرا، ستكون مباحة، حيث يعني ذلك أن بلادهم فتحت عنوة، وأنهم لا زالوا متمردين، وسوف لن يفلت الحسن وأهل بيته من العقوبة ولو بتدبير عملية اغتيال أو قتل لن يعدم الطريق إليها عقل معاوية المتفنن في هذا المجال.
السيناريو الثالث هو الدخول في مفاوضات الصلح بالبنود التي ستأتي والتي ستضمن الحصول على مجموعة من المكاسب المعنوية مقابل ترك الحرب والموادعة التي لا بد منها. وهو ما دخل فيه الإمام سلام الله عليه.
معاوية لا زال يتظاهر بالصلاح وحفظ مصالح المسلمين
يظن البعض أن معاوية كان يظهر للأمة بأنه شخص لا يعنى بالإسلام ولا بالدين، وأنه يظهر بمظهر المتفلت عن الشريعة والذي لا يقيم لها وزنا، ومن ثم يسهل على خصومه إسقاط احترامه في قلوب أتباعه
إنه فهم خاطئ فقد كان الرجل يتستّر بالخطاب الديني ويتظاهر بنصرة الدين والإسلام، ويشرح أنه في كل تحركاته إنما ينطلق من الإسلام.
كان الحسن عليه السلام يرى أن هذه الأمة التي خذلته وأسلمته إلى عدوها لا زالت بحاجة إلى مزيد من دروس اليقين، حيث تعيش حالة من الشك العميق، الذي يجعل اللامبالاة سلوكها، ولهذا آثر السيناريو الثالث لتدخل هذه الأمة مرحلة اليقين وتنتقل من حالة الشك لترى ما الذي سيفعله معاوية بعد عقد هذه الهدنة، هل سيفي بما فيها من شروط، أو سيرمي بها عرض الحائط، ومن ثم يتبيّن لكل مخدوع أن الرجل لا هم له سوى المال والأمر والنهي، ومن هنا يسقط تظاهره بالشرعية بطريقة لا مواربة فيها.
الحسن سلام الله عليه يبرر الصلح
برر الحسن الصلح مع معاوية بقوله:« إنه سخى بنفسي عنكم يا أهل العراق ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وإنهابكم متاعي»( ). وهو يبيّن إلى حدٍّ بعيد أن يأسه من نصرتهم حدثت بعد محاولة الاسدي قتله في مظلم ساباط، وأن هذا زهّده في أي أمل فيهم في تحقيق أي مكسب للإسلام.
لقد كان الإمام الحسن يرى أن قراره بالسلم هو القرار الأصوب، وأنه يصب في مصلحة شيعته وشيعة والده وحقن دمائهم، وقد أفصح عن ذلك بطريقة حينما ألقى خطاب الموادعة في الكوفة بعد دخول معاوية إليها، وطلب منه أن يلقي على العامة خطابا بشأن الصلح ، وكان معاوية يريد أن يوقعه في موقف حرج بإشارة ابن العاص، فانبرى الإمام الحسن عليه السلام، فتشهّد وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال في بديهته: أما بعد ايها الناس فإن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله عز وجل يقول: (إن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين)، ويتبيّن جدا أنه كان جوابا ذكيا ويتحلى بالديبلوماسية الصادقة لو صحت العبارة.
ويكفينا من تصريحات الحسن (ع) ما قاله أكثر من مرة في سبيل افهام شيعته حيثيات صلحه مع معاوية: «ما تدرون ما فعلت واللّه للذي فعلت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس». وما قاله مرة أخرى لبشير الهمداني وهو أحد رؤساء شيعته في الكوفة: «ما أردت بمصالحتي الا ان أدفع عنكم القتل» .
تنوع أدوار وهدف واحد
هناك من يظن أن دوافع الصلح لدى الحسن تعود إلى نفسيته الموادعة، وأنه رجل سلم لا يميل إلى الحرب، ولا يحبها، ولا يرضاها، غير أن ما قاله أبوه في صفين عنه حينما رآه يتسرّع إلى خوض غمار الحرب أكبر ردٍّ على هذا الصنف من الناس، لقد قال الإمام علي عليه السلام: (امْلِكُوا عَنِّي هَذَا الْغُلَامَ لَا يَهُدَّنِي فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ يَعْنِي الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (ع) عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم) . وهي فرية أهون من أن يرد عليها.
وهناك من ينفخ في هذا الصلح ليجعله الأساس المفترض والذي كان يجب أن يتبع من علي عليه السلام سابقا ومن الحسين أخيه لاحقا، وهؤلاء بهذا يريدون الانتقاص من الإمام علي كرم الله وجهه، حين حارب البغاة، ومن أخيه الحسين حين خرج على يزيد، وهؤلاء مشكلتهم ليست مع الحسن أو الحسين أو أبيهما ولكن مع الإسلام ومبادئه الكريمة القويمة التي عبثوا بها ما شاؤوا.
من المعروف أنه يجب على القائد للأمة أن يتخذ الموقف الذي يراه مناسبا وملائما بحسب ظروفه المتاحة له، حتى ولو كان ذلك الحسن بن علي المنصوص على إمامته.
ألم يكن الإمام علي والده منصوصا عليه بالإمامة ولما لم يجد الناصر ورأى أن مصلحة الإسلام أن لا يعلن الحرب على من تقدّمه كان ذلك فرضه؟!
ألم يضطر الإمام أن يوافق على التحكيم بعد خدعة المصاحف وهو يعلم أنه على الحق ومعاوية على الباطل وأنه قاب قوسين أو أدنى من النصر، ولكن بسبب الظروف الطارئة والمستجدة اضطر لقبول التحكيم والذي هو نوع من الموادعة، وأن يوقّع عريضة تحكيم ليس فيها أنه أمير المؤمنين، بما يعني في النظرة القاصرة أنه من الآن فصاعدا لا زال يبحث عن شرعيته التي تتردّد بينه وبين معاوية.
إذا أردنا أن نقرأ تاريخ أهل البيت فيجب أن نقرأه باعتباره وحدة موضوعية واحدة، ومن الخطإ البيّن أن نقرأه مجزّءا، وأن نقرأ كلا على حدة، مثلا من الخطإ الفادح أن نقرأ سكون الإمام زين العابدين عليه السلام وهدوءه وميله للتغيير السلمي على أنه رأيه وأنه قناعته الشخصية والعقدية، في سياق قراءتنا لثورة ولده الإمام زيد، ألم يكن جهاد الإمام زين العابدين السلمي ونشاطه التوعوي الأخلاقي هو الخطوة الأولى التي يجب أن تسبق ثورة ولده وقرة عينه؟
الخلاف هنا ليس خلاف هدف أو غاية، إنه مجرد تنوع أدوار تؤدي كلها إلى الأهداف الكلية المشتركة، فهذا يحارب الظالمين بنشر الوعي والثقافة الإسلامية السوية وتصحيح مسار المنحرف منها، وهذا يحاربهم لتكون تلك التعاليم موجودة على الواقع.
حين صالح الإمام الحسن وجنح للسلم فإنه كان محكوما بالأهداف والغايات والطرق والأساليب المتاحة والممكنة والمرجو تحقيقها، والتي سنأتي على بعض منها، وحين ثار الإمام الحسين فقد كان محكوما بظروفه التي توجب عليه أن يثور، وحين استشهد كان يجب أن يستشهد.
إنها الخيارات المتاحة والممكنة في ظل التقدير والدراسة لحركة المجتمع ووعيه وموازنة المصالح والمفاسد التي مأخوذ على الإمام أن يكون أعلم الناس بها وأن يتخذ القرار المناسب إزاءها.
يقول العلامة محمد بن يحيى مداعس (ت1351هـ): "إنه لم يكن بين الحسن وبين الحسين عليهما السلام اختلاف فيما يعامل به الظلمة، وما يتعلق بسياسة الأمة وسير الأئمة في الرعية، وتدبير أمور الأمة المحمدية، فلا يتوهم متوهم من مصالحة الحسن عليه السلام لمعاوية اللعين، وعدم ذلك من الحسين عليه السلام في يزيد المريد المهين أن بينهما اختلافا في العقائد الدينية والسيرة مع الظلمة وسائر الرعية؛ لأن الحال اقتضى مع كل واحد منهما عليهما السلام حسن ما فعل ولو اتفق لأحدهما مثل ما اتفق للآخر أو وقع أحدهما في عين ما وقع في الآخر لما فعل خلاف ما فعله أخيه صلوات الله وسلامه عليهما معاً وعلى سائر الآل جميعاً، لأن الحسن عليه السلام في ابتداء الأمر جمع الأجناد والعساكر لقتال العدو فلما خذل وظن استئصاله هو وأخيه وشيعته حسنت منه المصالحة على تلك الشروط التي منها: إجراء الأمور مجاريها الشرعية ".
هل حفظ الصلح دماء الشيعة؟
كأنك تقول: وهل تحقق ما أراده الإمام الحسن بن علي عليه السلام من حقن دماء الشيعة؟ ألم يلاحقهم زياد وابنه والمغيرة تحت كل حجر ومدر؟ ألم يقتلوا حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وغيرهما؟
والجواب: أن معاوية وبني أمية بذلك أسقطوا كل دعاواهم، واتضح أنها زيف، وأنهم بعيدون عن الإسلام، وإذا كان الصلح يلزمهم أن لا يتعرضوا لشيعة علي عليه السلام وأن يكونوا ملتزمين بأحكام الإسلام فإنهم بذلك كشفوا بأنفسهم عن سوأتهم وعن قبح جرائمهم، وبيّنوا بأنفسهم أنهم أهل غدر وخيانة وجبروت وطغيان، لقد كشفوا بأنفسهم أنهم غير جديرين بحكم الأمة، وأنهم ليسوا خليقين بالإمارة، وهو ما أسس بعدُ لثورة الحسين سلام الله عليها.
إن مشروعية ثورة الحسين تتكئ على بساط صلح الحسن، إنها حركة تاريخية واحدة لا يمكن التفريق بينهما، إنهما مظهران لحركة واحدة، ويذهبان لتحقيق غاية وهدف موحد، لما خان بنو أمية العهود ونقضوا الصلح وضعوا أنفسهم في محل الذنب، وقادوا أنفسهم إلى جحيم الغدر والخيانة، وأظهروا أنفسهم خليعين عن القيم والدين، وأفصحوا عما كانوا يخفونه من الهزء واللعب والتحايل على الدين والإسلام، بخلاف ما لو انسحب الحسن سلام الله عليه من موقع الحدث بدون رسم معالم هذا الصلح، فإن هذا يعني أنهم لم يدخلوا في التزامات مكتوبة ومشهود عليها.
بنود الصلح
لا يعني صلح الحسن سلام الله عليه هو تسليم الأمر لمعاوية وانتهاء كل شيء عند هذا الحدث، بل إن نظرة واقعية تربط واقع الأمة آنذاك وتفكيرها وثقافتها ببنود الصلح، وعلاقة هذه البنود بواقع إمكانات الإمام الحسن المتوفرة في المعركة، مع إمكانات خصمه فإننا نجد أن الإمام الحسن ظفر بحزمة من الالتزامات المعنوية التي لها آثار آنية سريعة وآثار استراتيجية، بينما حظي معاوية بنفع مادي آني فقط وهو الحصول على إمرة العراقين وما والاهما كان سيحصل عليهما حتى بدون هذا الصلح وهذه البنود، لقد التزم بكثير من الأشياء على الملأ، يحمل كل بند منها أمرا فيه الحجة عليه دامغة.
لقد تناثرت بنود الصلح في مصادر كثيرة، وقد جمعها بعض الباحثين عازيا لكل بند إلى مصادره، وهي:
المادة الاولى: تسليم الأمر إلى معاوية، على أن يعمل بكتاب اللّه وبسنة رسوله صلى اللّه عليه وآله، وبسيرة الخلفاء الصالحين .
المادة الثانية: أن يكون الأمر للحسن من بعده ، فان حدث به حدث فلأخيه الحسين ، وليس لمعاوية أن يعهد به إلى احد .
المادة الثالثة: أن يترك سبَّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة ، وأن لا يذكر علياً إلا بخير .
المادة الرابعة: استثناء ما في بيت المال الكوفة، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الأمر. وعلى معاوية أن يحمل الى الحسين كل عام الفي الف درهم، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين ألف الف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دارابجرد .
المادة الخامسة: «على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمّنَ الاسود والاحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع احداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة ». «وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن اصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل الى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب اصحاب عليّ حيث كانوا.. ». «وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لاحد من أهل بيت رسول اللّه، غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق ».
قال ابن قتيبة: «ثم كتب عبد اللّه بن عامر - يعني رسول معاوية الى الحسن (ع) - الى معاوية شروط الحسن كما أملاها عليه، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة، والايمان المغلَّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، ووجه به الى عبد اللّه بن عامر، فأوصله الى الحسن ».
انتصر الحسن بالصلح
أجزم أن المنتصر من خلال هذا الصلح هو الإمام الحسن
والمعاهدة - بعدُ - هي الصكّ الذي وَقّعه الفريقان ليسجلا على أنفسهما الالتزام بما أعطى كل منها صاحبه وبما أخذ عليه. وهي هنا - على الاكثر - قضية «ماديَّات» محدودة لجّ في تحصيلها أحد الفريقين لقاء «معنويات» لا حدَّ لها استأثر بها الفريق الثاني.
فلم يهدف معاوية في صلحه مع الحسن (ع)، الا للاستيلاء على الملك، ولم يرض الحسن بتسليم الملك لمعاوية إلا ليصون مبادئه من الانقراض، وليحفظ شيعته من الابادة، وليتأكد السبيل الى استرجاع الحق المغصوب يوم موت معاوية.
ومن سداد الرأي أن لا نفهم مغزى هذه المعاهدة إلا على هذا الوجه .
وبعدما تقدم نقول: إن الإمام الحسن عليه السلام قد استطاع بعقد الهدنة الذي أبرمه مع معاوية أن يحفظ للشيعة المخلصين حقهم في الحياة، وأصبح أي تعامل غير إنساني معهم يمثل دليلاً على سقوط أطروحة وادعاءات مناوئي أهل البيت عليهم السلام، لأنه سوف يكون عدواناً غادراً ومفضوحاً. لا يمكن تبريره بأي منطق كان، حتى بمنطق أهل الجاهلية، ومن لا يؤمن بدين..
كما أنه عدوان يدركه الناس كلهم، كبيرهم، وصغيرهم، وعالمهم وجاهلهم، والذكي والغبي، والقريب والبعيد.. من حيث أن البشر كلهم يدركون أن الحياة الإنسانية لا يمكن أن تستمر إذا لم يتم الالتزام بالعهود والمواثيق، فمن لا يلتزم بها، فإنه يصادم البداهة، ولا بد من إدانته، لأنه بنظر الناس جميعاً يعبث بسلامة الحياة الإنسانية، وهو ما لا يمكن السماح ولا الرضا به، في أي من الظروف والأحوال
وعلى كل حال.. فإن إلقاء نظرة على هذه الشروط تعطينا أنها قد ركزت على سحب جميع الذرائع من معاوية والأمويين، وإسقاط كل أطروحتهم، وسلبهم أية شرعية يمكن أن يدعيها أي فريق بشري حتى لو كان من أهل الجاهلية، أو غير مسلم، حتى من لا يدين بأي دين، ولا يعترف حتى بوجود الله سبحانه.. .
ذكر صاحب كتاب عاشوراء بين الصلح الحسني والكيد السفياني على بنود هذا الصلح عدة ملاحظات، منها:
1-إنه شَرَطَ أن يكون خراج دارابجرد للإمام عليه السلام يدل على أنه عليه السلام، لا يرى معاوية إماماً، من حيث إن هذه المنطقة إنما فتحت صلحاً ولم تفتح عنوة. وما كان كذلك، فهو للإمام كما هو مقتضى الفقه الإسلامي.
أما سائر البلاد، فقد فتحت عنوة، وما كان كذلك فهو يقسم بين المقاتلة الفاتحين. فإذا تعدى معاوية على حقوق الناس، وظلمهم، فإن على الناس أن يطالبوا بحقوقهم، وأن لا يرضوا بهذا الظلم.
أما ما يرجع إلى الإمام فإنما هو حق له من حيث هو إمام.
وبذلك يكون عليه السلام، قد أفهم من يريد أن يفهم: أن هذه الهدنة قد تضمنت سلب معاوية كل ما يدعيه لنفسه من مقامات، وبينت أن الإمام الحق إنما هادنه في دائرة محدودة جداً، ولكنه سلب عنه كل شرعية فيها..
2- كون الأمر بعد معاوية للحسن، ثم للحسين عليهما السلام..
فالقضية إذن ليست قضية مجاملات، ولا هي نزاع حول التفوه بألفاظ المدح والثناء، أو النطق بالألقاب، أو السكوت عنها.. بل القضية قضية إحقاق الحق، وإرجاعه إلى أهله.. وهو الحق الذي غير اغتصابه من أهله مجرى التاريخ.
فلا يصح أن يقال: إن معاوية جعل الأمر لهما عليهما السلام، من بعده على سبيل التنازل عن حق هو له، إرفاقاً بهما، وتقرباً لرسول الله صلى الله عليه وآله، فإذا بدا له بعد ذلك أن يسترجع هذا العطاء، حين رأى المصلحة في ذلك، فإنما يسترجع حقه..
نعم، لا يصح أن يقال هذا، لأنه إنما قال:
إن الأمر من بعده للحسن ثم للحسين.
ولم يقل: إن معاوية قد جعل الأمر لهما عليهما السلام.
وهذا معناه: أن معاوية قد سجل اعترافاً بحقيقة راهنة، لم يكن له بد من الاعتراف بها
ولو أغمضنا النظر أيضاً عن ذلك، وقبلنا باحتمال هو أوهى وأسخف من الاحتمال الذي ذكرناه في الشرط السابق، وهو أن يكون قد أعطاهما ما هو حق له أيضاً، فيصح له التراجع عن هذا العطاء إذا رأى المصلحة في التراجع، فيأتي دور الشرط الآخر لينفي صحة هذا الاحتمال وليؤكد بواره، ويقول:
3 ـ وليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده.
فهذا الشرط قد بين أن لا حق لمعاوية في هذا الأمر أصلاً.. وهو يدل على أمرين:
أحدهما: أن جعل الأمر من بعده للحسن ثم للحسين، لم يكن من قِبَلِ معاوية، لأنه لا يحق له ذلك..
وهذا يدل على أن ذكر ذلك في وثيقة الهدنة والصلح، قد جاء على سبيل الاعتراف والتقرير لحقيقة ليس لمعاوية فيها حيلة، ولا يملك إلى دفعها سبيلاً..
الثاني: أنه حين نكث معاوية بعهده هذا، وعَهِدَ إلى ولده يزيد لعنه الله، فإنما فعل أمراً قد اعترف هو بعدم مشروعيته، لأنه صدر عمن ليس له الحق في أن يفعله..وبهذا يكون هو من مهّد لثورة الحسين سلام الله عليه.
4 ـ أن يكون خراج دارابجرد للإمام الحسن عليه السلام ليفرقها بين يتامى حرب الجمل وصفين، ولم يذكر النهراوان.. ومن شأن هذا الاشتراط: خصوصاً، مع عدم ذكر ايتام النهروان أن يظهر مظلومية أمير المؤمنين عليه السلام في حرب الجمل. ويشير إلى بغي معاوية عليه، وإجرامه في حقه وفي حق الأمة بخروجه عليه في صفين، مما يعني إبطال جهود معاوية للنيل من الإمام علي عليه السلام وإظهار أنه كان ظالماً في حربه له..
يتبيّن إذن أن الإمام الحسن كان مستفيدا من الصلح وكان منتصرا به قياسا بإمكاناته المتوفرة، وكان معاوية هو الخاسر منه. ويتبين من خلاله أن الإمام الحسن يظهر أنه لا زال الإمام الشرعي
معاوية ينقض الصلح سريعا
إن الظالمين يجيدون التكتيك الآني، ولا يقدرون على التخطيط الاستراتيجي، إنهم أهل شهوة وهوى، وهذه الأمور من المستعجلات، لقد وافق معاوية على بنود ذلك الصلح، وهي ثقيلة جدا، لكنه اعتبرها لغوا من أول يوم، لقد قبل بها وهو مضمر للنكث والخلف، ولهذا ما إن حطّت رجلاه النخيلة من أرض الكوفة حتى سمعه أبو إسحاق السبيعي وهو يقول: كل شرط أعطيته للحسن فهو تحت قدمي هاتين .
إنه من المنظور المادي خاسر بكل ما تعني الكلمة من معنى، وكان يمكنه الحصول على ما كان يرومه بدون هذه المكاسب، ولكنه استخف تلك الشروط لتبييته الغدر بها، ولكن بعد أن حصل على مقصوده لم يتحمّل البقاء تحت هذا الالتزام ظاهرا، فأرضى غروره الذي يطالبه بإعلان النكث والغدر بأن أعلن غدره، وهو أول موقف يخسر فيه معاوية ويظهر نفسه على حقيقتها البعيدة عن الإسلام والدين ومصالحه.
لقد كبّل الصلح معاوية بالتزامات معلنة ولهذا هو مخير بين أن يظهر نكثه وغدره بها، وتكون الفضيحة والإعلان المدوي عن تنصله من الدين، وبين أن يفي بها، وفي هذا صعوبة لا يقدر على مقاومتها.
لقد كان كل همه أن يحصل على الشرعية التي طالما افتقدها وحلم بها، وقد واتته الفرصة والظرف المناسب الذي حاول أن يقايضها بكل تلك المصفوفة من الالتزامات.
إنه كان يعيش حالة جدب هذه المشروعية ويؤلمه أنه متغلب، فكان عليه أن يبذل كل تلك الالتزامات ليحصل على مطلوبه.
يقول السيد عبدالحسين شرف الدين: لم يطل الوقت حتى انفجرت اولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، اذ انضم جيش العراق الى لوائه في النخيلة. فقال - وقد قام خطيباً فيهم -: «يا أهل العراق، اني واللّه لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا لتزكوا، ولا لتحجوا، وانما قاتلتكم لاتأمر عليكم، وقد أعطاني اللّه ذلك وانتم كارهون !. ألا وان كل شيء اعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدميَّ هاتين !»
هل بطلت إمامة الإمام الحسن بهذا الصلح؟
إذا كانت إمامته ثابتة بالنص فلا تسقط بمثل هذا الصلح، مثلما لم تسقط إمامة علي عليه السلام بموادعته لمن سبقوه، ولا بتحكيمه الحكمين في أمر واضح
لم يعترف بشرعية معاوية
يروّج أنصار الأمويين أنه حين صالح فقد نقل الشرعية إلى معاوية، وهو خطأ بيّن، وذلك لـ:
1- لأن الحسن سلام الله عليه لم يعترف يوما بشرعية خلافته واعتبره متغلبا ولا علاقة له بالخلافة الحقة، وكان بعد خلافته صريحاً في نفي الخلافة عنه، شأنه في ذلك شأن سائر القادة من المسلمين. فقال في خطابه يوم الاجتماع في الكوفة: «وان معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها اهلاً، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عزّ وجل وعلى لسان نبيه» وقال في خطاب آخر له - بعد الصلح - وكان معاوية حاضراً: «وليس الخليفة من دان بالجور، وعطل السنن واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكن ذلك ملك أصاب ملكاً يمتع به، وكان قد انقطع عنه، واستعجل لذته وبقيت عليه تبعته، فكان كما قال اللّه جل وعزّ: وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين» ، وفي رواية أبي الفرج عنه قال: إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وليس الخليفة من سار بالجور ذلك ملك ملك ملكا يمتع به قليلا ثم تنقطع لذته وتبقى تبعته:(وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) .
2- لما بويع معاوية خطب فذكر عليا فنال منه ونال من الحسن، فقام الحسين ليرد عليه فأخذ الحسن بيده فأجلسه ثم قام فقال: ايها الذاكر عليا، انا الحسن وابي علي وانت معاوية وابوك صخر وامي فاطمة وامك هند وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله وجدك حرب وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله اخملنا ذكرا، وألامنا حسبا وشرنا قدما. وأقدمنا كفرا ونفاقا. فقال طوائف من أهل المسجد: آمين. قال فضل: فقال يحيى بن معين: ونحن نقول: آمين. قال ابوعبيد: ونحن ايضا نقول.آمين. قال ابوالفرج.وانا اقول.آمين. قلت أنا حمود: وأنا أقول: آمين.
3- لم يقر له ذلك أيضا أصحاب الحسن الصالحون فقد سأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي قائلاً: «أي الخلفاء رأيتموني ؟»، فقال صعصعة: «أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ودانهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً. أما واللّه ما لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، ولقد كنت أنت وابوك في العير والنفير، ممن أجلب على رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم. وانما أنت طليق وابن طليق أطلقكما رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم. فأنّى تصلح الخلافة لطليق؟!» .
4- رفض هذه الشرعية بعض التابعين من المشاهير، قال الحسن البصري: «أربع خصال كُنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها امرها (يعني الخلافة) بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويل له من حجر وأصحاب حجر، (مرتين)».
هل تجوز هذه الهدنة فقها؟
من المعروف أن للإمام أن يتخذ القرار المناسب، وعليه أن يشاور أهل الحل والعقد والمشورة، وقد شاور الإمام الحسن كثيرا من الناس وكثيرا من صحابته الذين كانوا يحضرونه في أمر الهدنة التي بها يحفظ دماء من بقي من شيعته، في ظرف لا يسمح له أبدا أخلاقيا بالاستمرار في القتال؛ لأن ذلك يعني الانتحار بدون مبرر.
لقد ألجأت الظروف الإمام الحسن لأن يسلك هذا المسلك، مثلما ألجأت والده أن يسلك مسلك التحكيم مع نفس العدو، وإذا كان الإمام الحسن قد عقد الصلح مع البغاة الذين كانوا لا يزالون يتسترون خلف انتماءاتهم الدينية ودعاواهم الكثيرة، فإن رسول الله قد عقد الصلح مع الكفار الوثنيين في الحديبية، وكان في ذلك فتحا مبينا.
يقول أكثر فقهاء الأمة كما نقل عنهم الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى: وَصُلْحُ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ كَانَ صَوَابًا، وَقِيلَ : خَطَأٌ .
قُلْنَا : خَذَلَهُ أَعْوَانُهُ وَخَشِيَ اسْتِيصَالَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فَالسُّكُونُ أَصْلَحُ .
ويقول الإمام أحمد بن سليمان: فإن لم يجد (أي الإمام المنتصب للأمر) من يعينه على أمر الله، ويجاهد معه في سبيل الله جاز له التنحي عنهم، كما فعل علي(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بعد رسول اللّه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ) من قعوده عن طلب الأمر، مع أن الحق كان له، وكذلك فعل ولده الحسن بن علي(عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) لما فسد عليه أصحابه، وخذلوه، اعتزلهم وخلّى بينهم وبين معاوية وبين الأمر، وكذلك القاسم بن إبراهيم(عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بويع، واجتمع عليه الخلق، ثم رأى فشلهم وغلب على ظنه أنه لا يمكنه القيام بالأمر كما يحب بهم فاعتزلهم؛ لأن هذا الأمر لا يتم إلا بالأعوان والأنصار، فإذا لم يكونوا سقط وجوبه عن الإمام.
ويذكر العلامة مداعس أن "صلح الحسن عليه السلام كان صواباً عند أكثر الأمة، بل لم يخالف فيه إلا الخوارج نص عليه في القلائد، فأما ما مر من الحكاية عن بعض المحبين والشيعة من اللوم للحسن عليه السلام ومراجعته في ذلك كما مر عن سليمان بن صرد وسفيان بن الليل فليس منهم حكما ولا اعتقاداً للخطأ، وإنما ذلك مراجعة معه عليه السلام إذا رأى صلحاً في عدم المضي على موجب الصلح، حيث أن معاوية قد فعل ما أوجب نقضه، دليله أنهم لا يعتقدون تأثيمه عليه السلام في ذلك ولا خرجوا عن موالاته أو محبته بما فعله من الصلح وعدم مساعدتهم إلى ما طلبوه منه عليه السلام وهذا واضح".
وبهذا يتبين أن الإمام عليه السلام كان معذورا في قراره، وكان هو الصواب فقها، وقد قام بما يجب عليه بأحسن شيء، وأي مسؤولية تقصيرية فإنها تتوجّه إلى الأمة الخاذلة والغادرة، والتي لم تمكنه من القيام بما عليه من أجلها.
ما بين صلح الحسن وثورة الحسين
يشتق الموقفان من هدف واحد سعى له الإمامان، وهذه مقارنة تكشف شيئا مهما
-من ناحية العدو: عدو الحسن لا يزال يتظاهر بالإسلام، وهو يمارس تغريرا واسعا على الأمة، بينما عدو الحسين (يزيد) كان أمره أكثر وضوحا، ويتضح تجرؤه على الله وعلى الحرمات بشكل أكبر. والصلح مع معاوية معناه كشفه وإصحاره إلى عامة الأمة بصورة الذي لا يرعوي لعهد ولا يقيم وزنا لحكم من أحكام الإسلام، لكن أي عقد للصلح مع يزيد في تلك الحالة فإنه يعني الإقرار بشرعية هذا المنصوب المتهتك وبكل ما سيفعله من إفساد في الأرض.
-من ناحية الناصر: تبين للحسن سلام الله عليه أن هؤلاء الأنصار لا يوثق بهم، وأن كثيرا منهم قد مالأ ووالى معاوية وكاتبه وبايعه، وبقي بعض الخلّص الذين سوف تتحطم جهودهم بسبب كثرة مشاغبات البقية، بينما كان الظاهر أن أنصار الحسين مستعدون للقيام معه، وهو في هذه الحالة يلزمه القيام والخروج بسبب وجود الناصر الذي يعلن أنه على استعداد بنصرته، ومعروف أنه كان لا زال يثق في نصرتهم حتى وصل أرض العراق، وبلغه خبرهم، وقد أُحصِر من قبل جنود ابن زياد، وحينئذ طلبوا منه أن ينزل على حكم ابن زياد، وقد رفض هذا الأمر وآثر الشهادة في موقف عظيم لا يسع أي حر إلا أن يفعل ذلك.
الأمة: كانت مصابة في عصر الإمام الحسن بحالة الشك في بني أمية، ثم خرجت منه نتيجة نقض الأمويين لبنود الصلح، إلى حالة فقدان الإرادة التغييرية مع معرفتهم لوجه الحق
-الظروف الموضوعية: تملي على الأول المصالحة والموادعة بالطريقة التي عرضناها، وتملي على الثاني أن يقف حرا كريما، وأن يثور ويموت حرا بتلك الطريقة الكريمة سلام الله عليهما.
-كلا المظهرين الصلح والثورة هما حركتان في تيار واحد، أحدهما يؤسس للآخر، ولا يتناقض معه، ولكل زمانه وظروفه. وقد انتصر دم الحسين في كربلاء بإقامة شرع الله وبخلق منهج الثورة ضد الظالمين في الفكر والواقع الإسلاميين يوم خان معاوية العهود، ونقض البنود، وتجرّأ على الله بالمخالفة لأحكامه.
يقول السيد عبدالحسين شرف الدين: "فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل اللّه، وانما صان نفسه يجندها في جهاد صامت، فلما حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنية، قبل ان تكون حسينية.
وكان يوم ساباط أعرق بمعاني التضحية من يوم الطف لدى أولي الالباب ممن تعمق.
لأن الحسن عليه السلام، أعطي من البطولة دور الصابر على احتمال المكاره في صورة مستكين قاعد.
وكانت شهادة «الطف» حسنية أولاً، وحسينية ثانياً، لان الحسن أنضج نتائجها، ومهد أسبابها.
كان نصر الحسن الدامي موقوفاً على جلو الحقيقة التي جلاها - لأخيه الحسين - بصبره وحكمته، وبجلوها انتصر الحسين نصره العزيز وفتح اللّه له فتحه المبين.
وكانا عليهما السلام كأنهما متفقان على تصميم الخطة: أن يكون للحسن منها دور الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألف من الدورين خطة كاملة ذات غرض واحد ".
الحسن يتعرّض لظلم شديد
أحسب أن الدخول في هذا الصلح يحتاج إلى شجاعة الحسن سلام الله عليه المعهودة، قد يتسنّى لكثير من الناس ومن أباة الضيم ركوب الحرب وأن يسقطوا كرماء ولكن قد يكون ذلك على حساب الطريقة التي يريدها الله منهم، قد يسهل عليك أن تكون محاربا مستقتلا ولكن من الصعب على الكثير أن يقبل اتهامه بالجبن والذلة، قد تكون قويا وشجاعا بما يكفي لأن تسلك خيار الحرب وتكون مقتولا بسرعة، ولكن في هذه الحالة قد لا تكون شهيدا، وتصنف في المتهورين حيث بينت حركتك هذه أنك غير جدير بها
الحسن سلام الله عليه كان يمتلك من الشجاعة والقوة في اليقين من الله ما يكفي لأن يتحمّل قسطا كبيرا من الظلم ليس من أعدائه كما فعلوا مع أخيه الحسين ولكن من أتباعه ومن كثير من الشيعة الذين حسبوا صلحه ضربا من الخور والتراجع.
إن الدخول في معترك الحرب التي قد تكون ضائعة وخاسرة ماديا ومعنويا بحكم أنها لا تصل إلى نتيجة استراتيجية سهل جدا، ولا يحتاج إلى مزيد من التفكير والجهد الذهني، بينما حينما يتخذ الحسن قرار الصلح في جو متلبّد بالشقاق والنزاع والشك فإنه لا يعدم سهام النقد والتجريح التي قد يفضل معها المرء الموت والقتل، ولكنها هي الشجاعة المنضبطة بضوابط الشريعة، والمتحلية بقيم الدين والإسلام، من غير المنطقي أن نحاكم الإمام الحسن إلى أهوائنا، ولكن يجب أن نحاكمه إلى نواميس الشريعة ومبادئ الإسلام، لقد فعل ما يطلبه الإسلام منه وهو الصلح حقنا للدماء، وليس عليه أن يسوق الناس إلى معترك الموت بلا ثمن ولا قيمة في معركة خاسرة إرضاء لنزعة مغرورة هنا أو هناك.
أخيرا: الدروس المستفادة من صلح الإمام الحسن عليه السلام
إنه يؤسس لجملة من القواعد لابد للأمة عموماً والعاملين خصوصا في الحقل الإسلامي الاستفادة منها:
الدرس الأول: الواقعية السياسية؛ علمنا صلح الحسن أنه يجب توفير مقومات النصر والظفر التي نص عليها القرآن الكريم وسماها الإعداد، فإذا كان الإمام المعصوم الحسن رغم حضوره ووجوده فإن النصر والتغيير لم ينتظر من السماء، وإن الموقف لم تحسمه الملائكة وإنما (قوانين التاريخ) وسنن الله في الكون هي التي تحرك المسيرة، نعم إن الله ينصر من ينصره ولكن مع عدم توفر شرائط النصر ومع عدم توفر مقومات الحرب لا مجال للنصر ولا إمكانية للحرب.
لقد علمنا الحسن (عليه السلام) درساً بليغاً في الواقعية السياسية لن تنساه شيعته أبداً
الدرس الثاني: الصلابة المبدئية؛ يعتذر الكثيرون بـ (الواقعية السياسية) ليميّع أهدافه أو يتحلل من التزاماته.
وصلح الحسن يعلمنا كيف نتعاطى مع الظروف والخصم بواقعية ولكن في كنف الالتزام العالي بالمبادئ بل إن هذه المبادئ هي التي تدفعنا للصلح، فهذا الصلح ببنوده القيِّمة حمى دين الأمة ورسالتها وقيمها من الانقراض.
الدرس الثالث: لا مانع من حلول مرحلية عندما تعوزنا الإمكانات فلسنا دائماً في مستوى تحقيق أهدافنا البعيدة، فلا مانع إذا هادن المرء مؤقتاً أو صالح، ولا بأس من تجرّع مرارة التنازلات أحياناً في سبيل حفظ الأهداف الكبيرة.
الدرس الرابع: الإسلام وأهدافه العليا هي (الاستراتيجية) فلا حرب دائمة ولا هدنة أبدية الحرب والجهاد والهدنة والسلم كلها خطط مؤقتة لخدمة الهدف الكبير.
الدرس الخامس: لابد من تشخيص دقيق لمرض الأمة وداء المجتمع وفي ضوء ذلك نحدد هل الجهاد والثورة هي الحل أم السكون والهدوء وبالمقابل دراسة وتحليل أهداف الأعداء أيضا.
أزعم أنه يجب على الثائر الذي يريد الثورة اليوم أن يكون على وعي كبير بما تحتاجه الأمة وبالطريقة التي تفكر بها والقواعد التي تؤثر في مواقفها، ولهذا ورد عن الإمام زيد بن علي عليه السلام أنه قال عن نفسه إنه أعلم أهل بيته بدين الله، وبما تحتاجه الأمة أو كما قال.
الدرس السادس: حفظ الصالحين من أبناء الأمة وطلائعها المجاهدة مقصدٌ هام من مقاصد الدين وإن كان حفظ الدين هو أول المقاصد فإن في حفظ هؤلاء الملتزمين والمؤمنين والمجاهدين حفظ للدين حقاً.. والمعركة التي تحقق الأهداف قد تكون من سلمية وقد تكون حربية، والقائد هو من يتخذ القرار المناسب، بالتشاور مع أهل الرأي والمشورة.
الدرس السابع: يعلمنا الإمام الحسن (عليه السلام) أن نمتلك وعيا مستقبليا فلا ننفعل باللحظة التاريخية التي نعيشها ولا نترك الظروف الراهنة الشديدة تسقطنا بل لابد من الانعتاق من ضغط الحاضر التي قد يفرض علينا تنازلات، بالتحديق الواعي للمستقبل والتخطيط له .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين.
14/ 12/ 2013م
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 10807 مرات