إسقاط شرعية الظالم في ثورة الإمام زيد عليه السلام .. عبد الوهــاب المحبشي
إسقاط شرعية الظالم في ثورة الإمام زيد عليه السلام
عبد الوهــاب المحبشي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد:
ثورة الإمام زيد عليه السلام في المحرم سنة 122ه هي نهضة حسينية في جيل من المسلمين كما كانت ثورة الحسين عليه السلام في المحرم سنة 61 هـ نهضة محمدية في جيل المسلمين في زمانها، وكما كان البعد الزمني بين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثورة حفيده الحسين عليه السلام هو نفس البعد الزمني بين ثورة الحسين وحفيده زيد عليه السلام، وهو لا يعني من زاوية انه تكرار للتجارب في نفس المجتمعات بل إن الظروف قد تغيرت ومضى جيل وجاء جيل آخر بكل ماله وعليه ولهذا فكانت المتغيرات والمستجدات مستمرة والثابت الوحيد هو الحكم الظالم والمستبد وبالتأكيد إن الظلم لا يمكن أن يتغير من تلقاء نفسه بل لا بد من القيام لمواجهته ... وسنة الله في خلقه (إن اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فمن هنا كان حتميا بروز ثورة تهز هذا الطاغوت الذي ركن إلى سلطانه وإلى أن الثورة ضده غير وارده على اعتبار أن الامة قد خضعت لسلطان بني مروان بشكل كامل بحيث أنها يئست من إمكانية إزالة الظالمين بعد أن حدث ما حدث بكل من ثار لمواجهة بني امية بعد استشهاد الإمام الحسين عليه اسلام في كربلاء حتى سنة 122 هـ بعد مرور سبع عشرة سنة من سلطان هشام بن عبد الملك.
ما هي أسس الثورة؟
للإجابة على هذا السؤال يفترض بنا أن نجيب على سؤال عن شرعية الحكم القائم في زمن ثورة زيد عليه السلام ولنعرف أساس شرعية ذلك الحكم ينبغي أن تعرج على التوجهات التي تناولت الشرعية ومستند كل توجه وأي شرعية توفرت في هذا الحكم الذي ثار عليه زيد حتى يكون زيد قد أسقطها ومتى لم يكن الحكم شرعياً فإن الثورة على حكم غير شرعي تستمد شرعيتها من عدم شرعية الحكم ذاته.
فما هي التوجهات المتعارف عليها في تقييم الشرعية ؟
التوجه الأول: النص والتوجيه الديني
تأتي الشرعية الدينية من الدين، بحيث يكون الحاكم مختارا وفقا لقواعد الإسلام: ومن هنا كان المسلمون الأوائل ينظرون إلى النبي الأكرم كمصدر شرعي لتعيين ولي الأمة وكان حديث الولاية يوم غدير خم يحدد من تكون الأمة مطلوب منها توليه وموالاته، وحديث البني يستند إلى توجيه الله سبحانه وتعالى وهكذا كان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم غدير خم أمام آلاف المسلمين ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه ) بعد قوله ( إن الله مولاي وأنا مولا المؤمنين أولى بهم من انفسهم ) كان هذا القول لكثير من المسلمين مرجعيه في تحديد ولاية امر الأمة على مستوى المواصفات والأشخاص ولم ينازع احد في صحة هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن لم يرى فيه مرجعا لولاية امر الأمة لم ينكر صحته في نفس الوقت وإنما فسره بطريقة أخرى، وذلك يجعل من الموضوعي باعتبار هذا التوجه لقوة ما استند اليه بإجماع المخالفين له.
التوجه الثاني: الشعب
هذا التوجه في النظرة إلى الشرعية يتمثل في اعتبار أن اختيار الشعب للحاكم هو مصدر الشرعية بحيث أن اغلبية الناس يختارون الحاكم الذي يحكمهم أو يختاره البعض ويقر البقية الاختيار فيصبح هذا الحاكم امرا واقعا بحيث يكون في الجملة شخصا تنطبق عليه المواصفات المطلوبة في الحاكم من حيث تطبيق شريعة الإسلام وعدم تعمد المخالفة، هذا النمط من اختيار الحاكم في الإسلام برز في التأصيل لخلافة الخلفاء الثلاثة قبل الإمام علي وهناك بعض الملاحظات على الالتزام الدقيق بالفكرة عند التطبيق في الخلفاء غير أنها تجلت بوضوح وتكامل في اختيار الإمام علي بعد عثمان حيث تمت بيعته من قبل جماهير المسلمين في المدينة في المسجد بشكل لم يسبق أن تحقق في احد قبله على أن الشرعية في الأصل هي الشرعية التي يفترض أن تستمد من الكتاب والرسول ولكن نحن هنا نستعرض توجهات على مستوى الواقع في فهم الشرعية.
التوجه الثالث: العدالة
بعد أن سيطر معاوية على الحكم بقوم السلاح والمال سقطت المعايير الأخرى التي تتحكم في شرعية اختيار الحاكم مثل النص واختيار الناس وصار الحاكم يفرض بحكم الأمر الواقع والغلبة، ولم يعد هناك لديه أي باعث للتحدث عن الشرعية إذ عمد الحكام بعده إلى تكميم افواه الناس بالقوة او شرائهم بالمال بحيث لا يطرح موضوع شرعيتهم للنقاش اصلاً، وبرز نموذج آخر للبحث عن شرعية للحاكم ولو كانت هذه الشرعية لاحقة على توليه السلطة، وهو توجه من العامة للموائمة بين الالتزام الديني والواقع المخالف للدين.
ولا خلاف في أن كل من استلموا الحكم كوراثة من اسلافهم لا يستطيعون ولا اشياعهم ادعاء شرعية لحظة توليهم للحكم لا شرعية من الدين ولا من الشعب، حيث يكون الغالب استلامهم للحكم كورثة لمن سبقوهم بدون البحث في المعايير الأخرى لكن ظهور شخصية في هذا السياق كمثال يتيم يتمثل في عمر بن عبد العزيز الذي استلم الخلافة بناءً على وصية بتولية الحكم من قبل الحاكم السابق له وهو ابن عمه سليمان بن عبد الملك.
لم يكن عمر بن عبد العزيز خليفة شرعيا لحظة توليه الخلافة لأنه لم يكن مختارا من الشعب ولا يستند اختياره إلى المعايير الدينية والنصوص القرآنية والنبوية في اختيار الحاكم ولكن صار ينظر إلى عمر بن عبد العزيز فيما بعد نظرة احترام ولم يتعد يعتبر كغاصب للحكم ولم تقم عليه الثورات باعتبار موضوعي وهو أدائه في السلطة وإن لم يستطع إنقاذ الأمة الإسلامية بحيث تستعيد حريتها في اختيار الخليفة فبمجرد وفاته عادت السيطرة الظالمة والمتجبرة لبني عمه إلى التحكم في المسلمين وسومهم سوء العذاب.
ملاحظة: في هذا السياق يحضر كاتب الأسطر العبارة التي قالها السيد بدر الدين الحوثي في مقابلة لصحيفة الوسط كتعبير عن الحد الأدنى المطلوب للأمة الذي لا يمكن الصمت على تجاوزه في مسألة الحكم فعندما سأله جمال عامر ما رأيكم في الديمقراطية أجابه السيد بدر الدين الحوثي نحن نفهم العدالة.
وهذا المثال اوردناه فقط للدلالة على أن الأمة في الحد الأدنى من نموذج الحاكم قد تتنازل عن طريقة الاختيار تحت وطأة ظروف لا تهيئ الوضع النموذجي والمثالي ولكن لا يجوز أن تتنازل عن طريقة الحاكم في الأداء بحيث يكون حاكماً بالعدل.
شرعية هشام
بعد عرضنا للتوجهات السابقة في فهم الشرعية نخلص إلى استعراض خلافة هشام من حيث شرعيتها ولا خلاف بين المسلمين أن هشام بن عبد الملك لم يكن يستمد شرعيته في الخلافة لا من كونه شخص تنطبق عليه النصوص القرآنية أو النبوية في تعيينه للخلافة والحكم فلم يكن من الناس الذين امر الله بمودتهم ولا بطاعتهم ولم يكن ممن دلت النصوص على موالاتهم ولا التمسك بهم، كذلك أيضا لم يكن هشام مختارا للحكم من قبل اهل الحل والعقد في الأمة.
كما أن هشام بإجماع المسلمين حتى المتحمسين له لم يكن معروفاً بالعدالة وفي هذا السياق فإن هشام قد تولى الحكم عقب وفاة أخيه يزيد وكان يزيد قد تولى الحكم بعد عمر بن عبد العزيز وزمن عمر معروف بالعدل إلى حد كبير فيما يتعلق بمظالم العامة فكان الانحراف بعد زمن عمر بن عبد العزيز واضحا وجليا مقارنة بما لمسه الناس خلال حكمه حين تنفسوا الصعداء من جور اسلافه مثل عبد الملك والوليد الذين سلطا الحجاج على رقاب الناس والحجاج معروف، ولو كان هشام تولى الحكم عقب الوليد مباشرة كان جوره امتدادا لجور ابيه واخويه، وهم في هذا الباب اشهر من ولاتهم، كما ان ولاتهم اشهر منهم.
ومع توفر الدواعي لتعظيم هشام لم يستطع احد التغطية على ظلمه ولو امكن ذلك لشيعته لألحقوه بعمر بن عبد العزيز. فكيف وقد سمع إما مباشرة او بالرواية أمر أبيه عبد الملك للحجاج بن يوسف حين قال له – حين ولاه العراق - اقتل من شئت وجنبني دماء بني هاشم فإني رأيت الملك سريع الزوال عن آل ابي سفيان حين تناولوا دماءهم وكفى بجوره مخالفته وصية ابيه رغم جور ابيه، ولكن اباه كان يعرف أن زوال الملك بقتله لآل محمد فلم يمنعه من سفك دمائهم خشيته على الملك كما منعت ابوه من قبل وهذا من فرط جوره وتجبره.
فكيف احتال علماء السوء في عصره وعصر امثاله لإغلاق البحث حول شرعية الحاكم الظالم؟! هنا نعرض إلى مفهومين المفهوم القرآني والمفهوم السلطاني الذي تعمد طرح نظرية أخرى تعالج اهتزاز شرعية الظالمين في مواجهة نصوص القرآن.
1. المفهوم القرآني: يقول الله تعالى في القرآن الكريم لإبراهيم عليه السلام (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) - البقرة 124 . هذا النص يعطي الإمامة لذرية إبراهيم عليه السلام ولكنه يستثني بوضوح الظالمين حتى ولو كانوا من ذرية إبراهيم فعهد الله لا يوكل اليهم ولا يولون ذلك العهد والإسلام دين الله الذي يفترض تسليم المؤمنين به بحيث ينطلق المسلمون من خلال توجيهات دينهم - المتمثل أساسا في القرآن - في جميع امورهم بما فيها نظام الحكم وموضوع قيادة الأمة المسلمة، اكثر من ذلك فإن القرآن الكريم قد توجه إلى الظالمين باللعن والطرد (أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) – 18 هود - كما صنف الله سبحانه وتعالى الظالمين لكي لا يخفوا على الناس مع أنهم لا يخفون كما في الآية السابقة في تعريفه الظالمين وكقوله تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) – 45 المائدة - كما توعد الله سبحانه وتعالى من يميل إلى الظالمين بالنار فقال (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) – 113 هود - في هذا وعيد شديد للظالمين بل لمن مال اليهم فقط مجرد الميل كما أن فيه توجيه للمواجهة معهم وعدم موالاتهم باعتبارهم من الصادين عن دين الله والكافرين بآخرته.
2. المفهوم السلطوي المنحرف عن القرآن:
لم يجد علماء السلطان في القرآن الكريم ما يهون او يتهاون مع الظالمين ولم يستطيعوا أيضا تحريف نصوص القرآن الكريم لكي تتناسب مع مطالب الظالمين فاتجهوا باعتبار القرآن نص محفوظ إلى أساليب أخرى في المواجهة مع القرآن لكي لا ينطلق الناس من خلال نصوصه باعتبار القرآن رسالة الإسلام ويمكن أن توجز بعض الأساليب في التالي:
1. وضع الروايات على النبي صلى الله علية وآله وسلم وإسنادها إليه بطريقة مدروسة على مستوى المتون والأسانيد بحيث تكون الأحاديث نصوص تحصن الظالمين وتمنع مواجهتهم وتدافع عنهم في حال عجزت عن اعطائهم شرعية فتم وضع الاحاديث في كل الاتجاهات التي تخدم الظالمين أو تؤصل لقضايا تهمهم، على سبيل المثال فيما يتعلق بحماية الظالم من ثورة الجماهير ورد حديث عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالسمع والطاعة للحاكم الظالم وورد فيه بالنص (مالم تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) فصار هذا الحديث يمنع منعا باتا أي ثورة على الحاكم حتى يعلن كفرا بواحاً وصارت الشروط توضع على لسان الشرع حتى يمكن توصيف الكفر بأنه كفر وما لم تكتمل الشروط يظل الحاكم الظالم مقدسا وتحرسه نصوص الدين وهذه قمة الإنقلاب على الدين والمخالفة للقرآن.
2. وضع القواعد التي تحمي الروايات الموضوعة وتجعل لها الأولوية في التطبيق على القرآن الكريم بحيث يتم ترهيب أي مسلم يطرح أن القرآن الكريم هو حجة الله ورسالته إلى خلقه وأن هذه الروايات تخالف القرآن ومن أمثلة تلك القواعد قاعدة أن السنة حاكمة على القرآن وقاعدة منع العرض على القرآن واتهام من يعرض الأحاديث على القرآن بالزندقة على اعتبار أن النبي قال ( اوتيت القرآن ومثله معه ) وكذلك قاعدة عدالة الصحابة لتحصين كل رواية مشكوك فيها من النقد على اعتبار ذلك النقد تكذيبا للرواة واتهاما لهم وبالأخص الجيل الأول وقاعدة فهم السلف الصالح وقاعدة الكف عما شجر بين الصحابة وتم تضخيم هذه القواعد والعناية بها، وجعلها دين يدان به مع صرف اي استدلال بالقرآن الكريم وترهيب من يستدل به.
3. تسطيح المفاهيم الإسلامية وتضخيم بعض القضايا التعبدية غير الأساسية والتهاون بالقضايا الكبرى والاستفادة من النظرة السطحية لدى البعض مثل استغلال احترام العرب والمسلمين للعهود والمواثيق فكان المخالفون للنصوص في القضايا الكبرى يبادرون إلى اخذ الأيمان من الناس بحيث يتحكمون بهم بسبب تقواهم التي يخشون معها عدم الوفاء بالأيمان والمواثيق وقد قال كثير من الأنصار إنه لولا بيعة سبقت في اعناقهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بايعوا إلا علي بن ابي طالب فكان احترامهم لليمين والموثق أولى لديهم من الالتزام في قضية الأمة الكبرى وهي الأمانة والتي هي اسناد الأمر إلى غير اهله، كما أن عبد الله بن عمر كما قيل وقف في مواجهة ثوار المدينة الذين خرجوا على يزيد بن معاوية وكان ينعى عليهم ثورتهم ويروي حديثا فيه الوعيد لمن اعطى الحاكم ثمرة قلبه وصفقة يده ثم نكث وهكذا كانت السلطة تستغل تضخيم القضايا القشورية في الإسلام إذا صح التعبير لتضييع القضايا الجوهرية وتعكس الأولويات وتستفيد من بساطة الناس وثقافتهم المغلوطة.
إذن فلم يكن لهشام شرعية ابداً بأي مقياس من المقاييس لكي نتحدث عن اسقاط زيد لشرعية هشام إلا أن هذا المعنى وهو تجريم وتحريم الخروج على الظالم مالم يظهر كفرا بواحا هو المخرج الوحيد الذي يساوي في الواقع أن هذا الظالم له شرعية فما معنى تحريم الثورة عليه إذا لو قلنا بعدم شرعيته لجازت الثورة عليه وطالما حرمت الثورة عليه فمعنى ذلك في الواقع أنه الخليفة والحاكم الذي تحرس مركزه نصوص الدين غير أن ذلك تم تقديمه للناس بطريقة مخالفة فلم يكن بالإمكان القول بصراحة أن الحاكم الظالم له شرعية بعد آيات القرآن الكريم ومع ذلك فقد اسقط الإمام زيد في ثورته تلك المفاهيم الزائفة والتضليلية من اذهان الناس فطرح الكثير من المبادئ الأساسية ومنها محورية القرآن الكريم في التأصيل لكل طرح حتى سمي حليف القرآن كتأكيد على مرجعية القرآن الكريم في مواجهة كل ثقافة مغلوطة مهما كان عنوانها تطرح على خلاف من القرآن وفند مفهوم شرعية الأغلبية عندما الف رسالته في القلة والكثرة كما الف كتاب الصفوة في التأكيد على الاستدلال بالنص القرآني والنبوي في التمسك والمودة والموالاة كما وجه رسالته إلى علماء السوء باعتبارهم الجهة التي كانت تشرعن للظالمين استمرارهم في الحكم وظلمهم وهو بهذه المنظومة من الأفكار الأساسية وغيرها اسقط الأسس التي تقوم عليها شرعية الحاكم الظالم بعنوان تجريم الخروج عليه.
نقطة الكفر البواح
حرص الإمام زيد عليه السلام على أن يوصل إلى الأمة أن الحاكم الذي تدين بطاعته قد تنصل عن كل قيم الإسلام حتى مسألة الكفر البواح التي اشترطوها في الخروج على الحاكم الظالم كانت قد توفرت في هشام بن عبد الملك وعندما تبلورت امام زيد بكل وضوح اتخذ زيد منها منطلقا لتحديد موقفه من هشام واتخاذ قرار المواجهة وقد كانت تلك اللحظة هي لحظة اعلان الثورة في وجه هشام من موقف أن هشام ارتكب من الأفعال مالا يعذر به عند اكثر العلماء الذين يدعون الدين تعصبا له فكان أن تناقل كل الرواة الموقف الذي جعل زيدا يخرج على هشام وهو ذلك الموقف الذي قال فيه هشام لزيد عليه السلام يا زيد أأنت الذي تمنيك نفسك الإمامة وأنت ابن امة فقال زيد عليه السلام إن الأمهات لا يقعدن بالإنباء عن بلوغ الغايات وإن إسماعيل كان ابن امة فأخرج الله من نسله سيد الخلق محمد صلى الله عليه وآله وإن إسحاق كان ابن حرة فجعل الله من ذريته قردة وخنازير وتقول الروايات بأن يهوديا كان نديما لهشام بن عبد الملك وكان موجودا في المجلس وقام بسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبدوا أن ذلك حدث في نفس سياق كلام زيد السابق فقال زيد لليهودي اما والله لو تمكنت منك لانتزعت روحك من بين جنبيك وبدل أن يغضب هشام لفعل اليهودي غضب لاستنكار زيد فقال هشام لا تؤذِ جليسنا يا زيد، فغضب زيد عليه السلام حين يقوم يهودي بسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس هشام الذي يدعي انه امير المؤمنين وخليفة المسلمين ثم لا يغضب هشام فقال له زيد أيسب رسول الله في مجلسك يا هشام ولا تغضب؟! والله لا تراني بعد اليوم إلا حيث تكره، وتناقلت الأمة ذلك الموقف من زيد ولا يختلف اثنان أن سب الرسول كفر وأن إقرار من سب الرسول على ما فعل والرضى به والدفاع عنه يعتبر أيضا كفراً ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).
آثار ثورة زيد عليه السلام
1. اسقطت ثورة الإمام زيد شرعية كل حاكم ظالم مهما كان قد استقر في الحكم والشرعية التي نقصدها هي الشرعية التي يتحجج بها العامة وعلماء السلطان وهي عدن تفريق كلمة المسلمين وشق عصا الطاعة بذريعة النهي عن الخروج على الظالمين، صحيح أن ثورة الإمام الحسين كانت قد أسست لمبدأ الثورة على الظالمين بالجملة، ولكن الإمام الحسين كان قد تحرك في مرحلة انتقالية إذا صح التعبير عقب وفاة معاوية سنة 60 هـ فرفض الحسين عليه السلام البيعة ليزيد ابتداءً فكانت هذه الثورة تؤسس بوضوح لإمكانية رفض الاعتراف بسلطة الحاكم الجديد طالما ولم يتم الإقرار بها من قبل وبشرعية ذلك الرفض والإنكار ولم يكن هناك سابقة أخرى في الثورة على ظالم قد استقر في الحكم زمناً طويلا بحيث تكون الثورة على الظالم مستساغة لدى عامة الناس ومقبولة مهما كانت سلطة الظالم قد طالت. وكتطبيق على ذلك فلنا أن نفترض أن ثائرا أراد الخروج على حاكم ظالم وقيل له إلى ماذا تستند وقال استند إلى ثورة الإمام الحسين عليه السلام فسيقال له فإن الحسين صبر حتى هلك معاوية ثم رفض بيعة يزيد من بعده فإذا كنت ستتأسى بالحسين فلتخرج كما خرج الحسين بعد أن يهلك هذا الظالم وقبل أن يحكم الظالم الذي يليه، أما بعد ثورة زيد عليه السلام لم يعد ليطرح هذا الأمر إذ كانت ثورة زيد هي الشرح الواقعي والعملي للكثير من المفاهيم الإسلامية الأصيلة التي كانت ثورة الحسين متنا لها، من هنا فإن كل الثورات التي قامت في بلاد المسلمين ضد الظالمين كانت تستمد شرعيتها من ثورة الإمام الحسين في الجملة ولكنها في التفاصيل اكثر شبها بثورة الإمام زيد الذي ثار على هشام بعد مرور 17 سنة على توليه الحكم وكانت ثورة الإمام الخميني على سبيل المثال اشبه بثورة زيد منها بثورة الحسين فقد ثار الخميني على الشاة بعد مرور 34 سنة على تولي الشاه الحكم وهكذا كل الثورات الأخرى وهذه النقطة تعطينا درسا بأن الحاكم الظالم لا يمتلك أي شرعية مهما استمرت مدة حكمه.
2. بلغ هشام من الحكم واتساع رقعة السيطرة مستوى لم يبلغه قبله حاكم ولا بعده ممن يدعون الإسلام ففي عهده كانت رقعة البلاد الإسلامية تمتد من فرنسا إلى الصين ولكنه سخر كل هذه السيطرة الواسعة للحكم بغير ما انزل الله وتوطيد سيطرته على الناس وتقديم نموذج سيء وسلطوي لا يمت إلى روح الإسلام بصلة ولهذا بمجرد موته تضعضعت الدولة الأموية فلم تتسع رقة البلاد بعد ذلك وبدأت في الانكفاء المتتابع على مستوى الجغرافيا حتى الآن وما ذلك إلا لأن روح الإسلام كانت غائبة في زمن سيطرت هدا الرجل ولو كانت روح الإسلام حاضرة لكان الطبيعي أن تزداد قوة إلى قوة، والدرس الذي نستفيده هو ألا تغرنا الشكليات والظواهر على حساب المضامين فقد ثار الإمام زيد على أوسع الملوك سلطان ولم يخف أو يشك في نصر الله وتأييده وأحقية مشروعه وكذلك يفترض أن تكون الامة في مواجهة كل قوى الاستكبار مهما كانت قوتها ومهما كانت بداية المستضعفين بسيطة.
سقوط دولة بني أمية تماما كأثر مباشر لثورة الإمام زيد
لا يختلف المؤرخون أن دولة بني امية سقطت بعد عشر سنوات على استشهاد زيد على يد أبي مسلم الخرساني فما الذي حرك أبو مسلم الخرساني للثورة على بني أمية؟! في هذا السياق يجمع المؤرخون من الزيدية وغيرهم على أن أبا مسلم كان في خراسان قد ثار عقب استشهاد يحيى بن زيد هناك مستغلا المشاعر التي يحملها اهل خراسان ليحيى بن زيد وابيه بحيث كانوا يسمون كل مولود لهم يحيى او زيد فقاد هذه المشاعر الجياشة ضد كل ولاة بني امية منذ استشهاد يحيى بن زيد سنة 126 هـ واستمر في ثورته معتزيا إلى الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية فأطاحت الثورة ببني امية لكن أبا مسلم سلم الحكم لبني العباس عقب سيطرته على الكوفة وقد جازاه العباسيون غدرا على غدره فقتلوه بعد ذلك ولا ينكر المؤرخون الإيرانيون هذه الحقيقة فهم يرجعون اليها أساس دخول حب اهل البيت والتشيع لهم إلى بلاد خراسان بشكل خاص وايران بشكل عام وقد طرحت من قبل علمائهم أبحاث في هذا الموضوع تتحدث عن اثر يحيى بن زيد على مجمل الحياة الثقافية والفكرية في ايران حتى الآن.
النماذج القائمة الآن في مواجهة مشروع الاستكبار الأمريكي
في التأصيل الفكري للتيارات الإسلامية تستند ثقافة عامة الأمة إلى نظرية طاعة ولي الأمر وعلى هذه الأساس فهي تستسلم للحكام مهما كانوا عملاء للأمريكان أو للصهاينة وتؤصل لعدم الجهاد إلا بعد أن يأمر الملك في مجافاة كاملة لقيم القرآن ولسيرة النبي الأكرم وللفطرة الإنسانية وتجارب شعوب الأرض.
ويبرز في مواجهة ذلك ثقافة مواجهة الطواغيت والظالمين والعملاء ورفض الخيارات التي يملونها على الشعوب وهذا المنهج هو منهج زيد عليه السلام وليس بالضرورة أن يعتزي الناس اليه في ذلك فهو منهج القرآن ومن ينطلق من القرآن سيكون في نفس المكان الذي كان فيه زيد عليه السلام وكتطبيق على هذا المنهج يتحرك أبناء الشعب اليمني من وحي الثقافة القرآنية والالتفاف حول اعلام من عترة النبي في مواجهة العدوان العالمي كما أن الثقافة التقليدية التي حملها شيعة العراق وايران زمناً لا تتيح التحرك الجهادي في مواجهة قوى الاستكبار ولكن ما نلمسه الآن في ايران بعد ثورة الإمام الخميني وفي لبنان متمثلا في المقاومة الإسلامية بقيادة السيد حسن نصر الله وكذلك حتى في العراق حيث الحشد الشعبي لمواجهة داعش يتخذ من مشهد الإمام زيد مركزا أساسيا للتعبئة الجهادية للشعب واستحضار روح الجهاد والتمثل بزيد عليه السلام الذي قدم نموذج للثورة والجهاد كسابقة يستدل بها على وضعنا الراهن والذي يشبهه من حيث النهوض الجهادي تحت قيادة بدون اشتراط القيادة المباشرة من المعصوم فكان استلهام نموذج الإمام زيد في العراق مخرجا من اشكاليه فكرية ضلت قائمة زمناً طويلاً، وهناك برزت الحاجة إلى نموذج زيد في الثورة ة الجهاد والحاجة إلى التأسي به كمرجعية في هذا الشأن لإقناع عامة الناس بالجهاد اليوم وهم الذين تشربوا زمانا طويلا ثقافة الانتظار.
وهذا ما يلمس الآن من أن كل ثورات المسلمين الآن تتخذ من زيد نموذجا لها في اتجاه التمسك بالقرآن والالتفاف حول القائم الحاضر من العترة وعدم التعويل على التفاصيل النظرية او التقيد بها إذ فرض الواقع شروطه بما يقتضيه التكليف الإلهي ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
لقد كانت ثورة زيد ثورة واقعية لم تغرق في التنظير المثالي حتى تصبح مستحيلة التحقق وعديمة الفاعلية وكل الثورات الآن في اليمن والعراق وايران ولبنان في مواجهة المشروع الاستكباري الأمريكي الصهيوني تستند إلى واقعية المنهج والإعداد والقيادة والتحرك الميداني ولا تنتظر المعجزات لتخرج لها بالخلاص من الغيب بدون بذل الأسباب والجهاد في سبيل الله وهذا جوهر زيد عليه السلام وقد استشعر احد شعراء العراق ذلك وهو الشاعر مهدي شاكر النهيري الذي قال وهو يرثي زيدا في قصيده عنوانها يسوع الهاشمي:
من استاء من رأي السماء وشانه أن الله يختار النبيين أنهرا
فآثر أن يبني السدود لردهم إلى الله أن هاك اقتراحك أحمرا
وعلق أشياء الإله بنخله وخاطب يا اَلله ظلك مفترى
أفي الله شك أن أولاد ذوقه قبيحون كي يمحوا نخيلا وأبحرا
وهل لم يكن زيدُ النخيل مجرة من الحدق المشغول أن كيف أثمرا
وكيف نجا من أن يموت منارة مهشمة لا ضوء، لا باب، لا عرى
هل القابضون الريح أدرك يأسهم بأن بني المعنى جديرون أن نرى
وأن المسمين الهواشم أسوة بأن نتهجاهم إلى البدء معبرا
وأن ننبغي أنمى، وأدمى، وأكثرا لحد العمى أن يستفز فيبصرا
فيدرك أنا خاضنا جذع زيدنا صليبي زمانا ملنا حد أنكرا
فأنبأنا أنا جحدنا صحاحه وأخرجنا من معجم الموت مجبرا
في الختام
التوصيات باختصار:
1. تأصيل وتوثيق كل ثورات اهل البيت وكيف تنوعت بحيث عالجت وسلطت الضوء على جوانب مستجدة لم تشبعها ثورة أخرى لتغير الظروف والمواقف بحيث تستلهم التجارب على مستوى التأصيل والواقع.
2. جمع وتوثيق وترجمة كل الأبحاث والأفكار والقصائد التي لها ارتباط بالإمام زيد عليه السلام سواءً في اليمن او العراق او ايران او غيرها حيث يحكى عن حضور ثقافي بشكل او بآخر للإمام زيد كشخصية معظمة وقيمة إنسانية حتى لدى ديانات أخرى في الهند.
3. الالتفاف حول القائم الحاضر من العترة الداعي إلى القرآن وتعبد الله سبحانه وتعالى بذلك كدين يدان به واعتقاد حجيته بذاته واستفراغ الجهد في طاعته بغض النظر عن التأصيلات النظرية كتطبيق لثورة الإمام زيد اثبت ثمرته وحصول التأييد الإلهي لهذا التطبيق في عصرنا الحالي في ارض الواقع بغض النظر عن الجغرافيا، والعمل على تقديم هذه الثقافة بشجاعة في كل بيئة توالي اهل البيت عليهم السلام إذ انها الاستثمار الحقيقي للتمسك بالثقلين في هذه الظروف المصيرية والحاسمة.
4. الثورة على أي حكم ظالم تستمد شرعيتها من عدم شرعية الحكم ذاته. ويفترض اسقاط هذه القيم والمبادئ القرآنية على مستوى المناهج والأبحاث في الدراسات الجامعية.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 5830 مرة