لماذا حليف القرآن؟ ... حمود عبدالله الأهنومي
لماذا حليف القرآن؟ ... حمود عبدالله الأهنومي
23 محرم الحرام سنة 1433هـ
جرّت الممارسة المنحرفة والسلوك المخالف للإسلام من قبل الحكام الأمويين أثرا على العقائد التي كانت بدأت في التبلور واكتمال الصياغة، ويبدو أن عقيدة المرجئة التي راجت لدى بعض التابعين وتابعي التابعين بسبب أنهم لم يمتلكوا الشجاعة الكافية فيما شجر بين الصحابة ثم التابعين، فهربوا إلى تحسين الظن بجميعهم قاتلهم ومقتولهم وظالمهم ومظلومهم، وهو وضع لم يكن موجودا على عهد الصحابة فقد كان هناك وضوح في المواقف وتباين في الأحداث وتقييمها، لقد وجد هؤلاء المرجئة ميراثا من العلم والروايات التي تتناقض مع واقع الحكم آنذاك ولهذا كان الأسلم لهم من وجهة نظرهم أن يغضوا الطرف عن المخالفات التي ارتكبت في عصرهم، وروّجوا أن إعلان الشهادتين كاف في الذهاب إلى الجنة ولو فعل الإنسان كبيرا من المخالفات، كما حرص البلاط الأموي على نشر ثقافة الجبر تبريرا لمخالفاتهم الكثيرة في مجال العدالة الاجتماعية، وبه يظهر أن تلك الثقافة المغلوطة جاءت استجابة ومحاولة في تغطية سافرة لممارساتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ناقضت الإسلام وخالفته في ميادين ومجالات شتى.
حينها وجد الإمام زيد بن علي عليه السلام نفسه في أمة غاب القرآن عن كثير من أفكارها وقيمها وتفاصيل حياتها وعن السلطة التي تديرها، ورأى أن أفكارا وثقافات شاعت في العامة والخاصة كانت تدعو إلى اللاموقف والدعة والطمأنينة السلبية التي قصارى جهدها الصبر على المظالم والزهد عن المناصب، ولا زالت الماكينة الإعلامية الأموية تعمل على إنتاج أحاديث خطيرة تسللت إلى عقول أبناء المجتمع المسلم وكرست تلك الثقافات على أنها من دين الله، ولهذا فقد حرص الإمام زيد على الرد على المجبرة القدرية وعلى المرجئة، ورأى فقهًا - وقد كان أفقه الناس - أنه يحرم الصلاة خلف هؤلاء كما منع من تسليم الزكاة على أيهم[1].
كان لزاما على الإمام زيد بن علي أن يعود إلى القرآن لفضح هذه العقائد إذ أنه المصدر الأول الذي لا يرقى إليه شك ولا أحد يتجاسر على تكذيبه، وحذر من الفكر الإرجائي الذي يبدو في صورة زهد مزيف ووعي مشوه، وقد صنف الإمام زيد من يحمل هذا الفكر على أنه مستخف بحق القرآن ومغتر بأماني الشيطان، ودعى عليه السلام إلى اتخاذ القرآن إماما وقائدا في المحبوب والمكروه[2].
لقد كان عليه السلام صادقا في انسجام عقله وشعوره وتصوره وممارسته تجاه القرآن فهو الإمام الذي عُرِف وهو لا يزال في مقتبل العمر بصدق الخشية من الله والخشوع لذكر الله وما نزل من الحق[3]، وعرف في المدينة على مستوى واسع بكونه "حليف القرآن"[4]، بل ليس بعيدا أن يقال إن هذه الصفة كانت خاصة به صلوات الله عليه من بين سائر الأمة، وهو ما يشير إلى أن الإمام عليه السلام منذ وقت مبكر من حياته استغرق جهده ووقته وعقله وفكره وممارسته وفقهه وأهدافه في القرآن لتنشأ علاقة حميمية صادقة بينه وبين القرآن، متفوقا بذلك على علماء عصره.
هذه الحميمية وذلك الصدق والانسجام الشعوريان والعقليان ظهرت بوضوح في علاقته بالله وبالقرآن من خلال عبادته الليلية التي يمر فيها على آيات القرآن في صلاته ونوافله[5]، وظهرت بوضوح حينما انطلق الإمام إلى رحاب الدعوة وإيصال صوت القرآن إلى هذه الأمة فهو الذي استغل حبس هشام له في الشام لمدة 5 أشهر في أن يشد الناس إلى القرآن وإلى تفسيره بالطريقة التي يريدها الله، ويبدو أنه كان يروم البقاء هناك[6] لعرض أفكاره القرآنية في صدد محاربة الثقافات المغلوطة عن الإسلام في عقر دارها، وقد كان على مستوى عال في عرض أفكاره وملامسة عقول الناس والوصول إليها عبر التعاليم القرآنية[7]، غير أن إدراك هشام لخطورة بقائه في الشام يفسر سبب استعجاله إخراج زيد عليه السلام منها.
وفي مواجهة المحدثين المؤدلجين بثقافة الخنوع والزهد الكاذب (المرجئة) حذر الإمام زيد عليه السلام من قبول الأحاديث التي تخالف القرآن ودعى إلى اتهام من يروّج لها[8]، واعتبر أن تلاوة القرآن حق التلاوة ليست بكثرة الهذّ والدراسة وإنما بالاتباع للقرآن حق الاتباع[9]، كما أكد على وجوب كمال الاتصال بين قراءة القرآن وبين سلوك أمة الإسلام، واستنكر انطلاقا من صميم القرآن أن "يغلب قوينا ضعيفنا، وكثيرنا قليلنا"، واستئثار القلة بأموال المسلمين[10]، وكان يعتقد أن من موجبات تلاوة القرآن حق تلاوته أن التالي له تلك التلاوة لا بد أن يكون ذا موقف فصل من المحرفين لأحكامه، وأن المتمسك به حقا هو من يجب أن يكون على نقيض المخالف له[11].
لقد كان الإمام زيد على وعي بحاجة الأمة وبسبيل نجاتها في الدنيا والآخرة، وأنه يتمثل في القرآن الكريم وفي اتباع تعاليمه، وكان يرى أن القرآن الكريم هو العصمة من الضلال والأهواء والفتن[12]، ولهذا فقد قدم برنامجه الثوري المنطلق من القرآن جامعا لأهداف الإسلام وملبيا للحاجة المجتمعية الماسّة ولا يختلف حوله اثنان من الناس، إنه: " أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء على أهله، ورد المظالم وإقفال المجمرة[13]، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب"[14]، وهو برنامج يحمل الصيغة الواقعية والحاجة المجتمعية للمسلمين، ولعل هذه الواقعية في البرنامج الجهادي القرآني هي ما أكسبت ثورة الإمام زيد بن علي رضا جميع التيارات والمذاهب الإسلامية الموجودة آنذاك ومنها الخوارج والمرجئة والمعتزلة[15]، كما نالت ثورته ومؤهلاته القيادية والعلمية رضا قادة الفكر والعلم والقضاء ولهذا فقد سميت ثورته "ثورة الفقهاء أو ثورة العلماء"[16]وليس في هذا غرابة إذ أنه أمسك بتلابيب قضية المسلمين واستمد قوته وهداه من كتاب الله عز وجل.
ومن الجدير بالذكر أن اشتهار الإمام زيد عليه السلام بكونه "حليف القرآن" لا يعني بأي حال من الأحوال تجافيه أو بعده أو نفوره عن السنة النبوية الصحيحة، كيف ذاك والقرآن يأمره بأخذ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وترك ما نهى عنه، ولهذا فقد كان منهج الإمام زيد كما يتضح من تراثه العلمي هو الاستدلال بالكتاب والسنة، وحين عرض نفسه لمبايعته إماما للمسلمين الثائرين ضد الظلم دعاهم إلى امتحانه بالسؤال عن أي حكم من أحكام كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، مدعيا أنه أعلم أهل بيته بما جاء عن الله ورسوله، وقد شدّد على مصدرية القرآن والسنة لجميع الأحكام الشرعية والمعارف الدينية[17]، وقد خلّف لهذه الأمة أقدم كتاب جمع السنة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام وهو المجموع الفقهي والحديثي الذي تلقاه أهل البيت بالقبول والتصحيح واعتماد ما فيه.
وبما سلف يتبين أن تمحور الإمام زيد عليه السلام حول القرآن وتحالفه وإياه جاءا عن إيمان قوي وتصديق ثابت ويقين راسخ بكون القرآن الكريم كتاب الهداية ومصدر الإصلاح في أمة جده صلى الله عليه وآله وسلم الذي حمل همه واستشهد من أجله، لقد كان تحركه بالقرآن تحركا واعيا، وكانت أفكاره وعلاقاته ومواقفه تجاه كل القضايا المثارة في عصره قرآنية منطلقة من واقعية واضحة، وقد ظهر خطابه أبعد ما يكون عن الانفعال الديماغوجي غير المتزن، وردود الأفعال المستعجلة، وجاءت ثورته المباركة ثورة مخططا لها بعمق وفهم وإدراك لكل ما يؤثر ولكل ما يجب أن يحدث.
إنها ثورة حليف القرآن في زمن لم يكن فيه من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه.
[1] المجموع الفقهي والحديثي.
[2] مجموع رسائله عليه السلام.
[3] مقاتل الطالبيين.
[4] اشتهر بهذه الصفة لدى المصادر المختلفة الإمامية والزيدية والسنية.
[5] مقاتل الطالبيين.
[6] بدليل أنه بقي في الشام تلك الخمسة الأشهر في تفسير الفاتحة وسورة البقرة (أمالي المرشد بالله)، ولو كان يريد التحول لاستعجل أمره بشرح متفرقات من القرآن من هنا وهناك، ولما بدأ القرآن من أوله واستمر فقط فيه.
[7] كتب هشام إلى واليه يوسف بن عمر الثقفي محذرا إياه حسن أداء زيد عليه السلام في الحجاج والإقناع واستمالة الناس وكثرة حججه وقوة طرحه وسحر بيانه. (أنساب الأشراف للبلاذري)، ووصف الإمام أبوحنيفة حسن طريقة وأسلوب الإمام وكثرة علمه وقوة استحضاره بنحو ما وصفه هشام.
[8] مجموع رسائله.
[9] مجموع رسائله.
[10] مجموع رسائله.
[11] مجموع رسائله.
[12] مجموع رسائله.
[13] هم الجنود المجاهدون في ثغور المسلمين، وكان تجميرهم في الثغور (بقاؤهم مدة طويلة بعيدين عن أهلهم) أحد العقوبات التي اتخذها الأمويون في حق من لم يرضوا عنه.
[14] أنساب الأشراف للبلاذري.
[15] التحف شرح الزلف للعلامة مجد الدين المؤيدي.
[16] المصابيح في السيرة لأبي العباس الحسني، ومقاتل الطالبيين.
[17] مجموع رسائله.
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 1447 مرة