نعمْ انتصار.. لكنْ حَذارِ!
نعرف أن اختراق اللوبيات الصهيونية واللوبيات المالية المسلَّحة بالفساد والإفساد جعلت الخريطة متشابكةً في ما يتعلَّق بالقضية الفلسطينية.
"من اللطرون إلى غزة، ومن الحرم القدسي إلى اللُّدّ".
ليس توفيق زياد، أو سميح القاسم، أو جورج حبش، مَن يقول ذلك، وإنما يائير ليبيد، المرشَّح الصهيوني المقابل لبنيامين نتنياهو.
هكذا يُستعاد خطاب الجغرافيا التي تشكِّل أساس الصراع، بفعل أبنائها عليها، وكل كلام ما عداها سرابٌ، وضياع للبوصلة.
"حان وقت الرحيل"، يقول لبيد مخاطباً نتنياهو. لكنْ، كأنه في إحدى زلاّت اللسان، يكرِّر ما كتبه جدعون ليفي، ومفاده أنه حان وقت الرحيل للمستوطنين والمحتلين.
أولاً: مهلاً... لا يفهم عاقل من ذلك أن ليبيد أفضل من نتنياهو، ولا أن مَن هُزم في أرض فلسطين هو نتنياهو. ليس بينهما مَن هو أفضل، إلاّ حين تُضطره القوة إلى أن يكون كذلك. فهما لَمْ يأتيا من أقاصي الأرض إلاّ بسبب إيمانهما بأن هذه الأرض لهما، وأن مَن عليها طارئون عجماوات، لا يجوز بقاء البعض منهم إلاّ لخدمة اليهود. اليوم، سمعت تسجيلاً للناشط الشابّ علاء أبو دياب، وضع إصبعه فيه على هذا الجرح قائلاً: نحن لسنا يداً عاملة أجنبية يُسمَح لنا بالبقاء في أرض فلسطين لخدمة الإسرائيلي.
هكذا يقول الشرع والتلمود، مبرِّر وجود العجماوات وخلقهم على صورة اليهودي، والمبرَّر استخدامهم لخدمته، وكما تُعطى لكل العمال بعضُ الحقوق المادية، لكن من دون أيّ حقوق سياسية أو وطنية أو سوسيو – سياسية. مَن هُزِم هو هذا المشروع، وهذه الأيديولوجيا.
ثانياً: في فرنسا، يصدر في موقع "لوفيغارو"، مساءَ الثلاثاء الماضي، بيانٌ موقَّعٌ من ستين سياسياً وناشطاً، يقول ذلك حرفياً، إذ يرفض حقَّ من يسميهم "العربَ في فلسطين" في ادِّعاء حقوق سياسية في ما يُسمّونه "إسرائيل". ويهاجم بعض الأحزاب الأخرى، التي تبرِّر عنف هؤلاء بأنه غضب مُحقّ لمَن سُلبت أرضه وحقوقه وظُلِمَ وقُمِعَ. بل يحدِّد البيان حرفياً: "إنَّ من يهدِّد إسرائيل يهدِّدنا"، وإن "إسرائيل هي القاعدة المتقدِّمة في وجه الإرهاب الإسلامي"، ومن يتنكَّر لها يتنكَّر لأصوله اليهو - مسيحية.
المُهمّ في هذا البيان جملة ملاحظات أساسية، لا تنحصر في فرنسا، وإنما تطال العالم:
1- إن على رأس الموقِّعين على هذا البيان، إيمانويل فالس، رئيسُ الوزراء خلال عهد فرانسوا هولاند بين العامين 2014 و2016، وأكثرُ السياسيين الفرنسيين المتحمِّسين علناً لإرسال الإرهابيين الإسلاميين إلى سوريا، بحيث لَمْ يُماثلْه في إعلان حماسته هذه إلاّ اليهوديان الصهيونيان، وزير خارجيته لوران فابيوس، والناشط الذي يسمّونه فيلسوفاً، برنار هنري ليفي. ولا يمكن للذاكرة أن تنسى تصريحات فالس، التي قال فيها إنه "لا يستطيع أن يمنع هؤلاء الجِهاديين من الذهاب إلى سوريا لمقاتلة الديكتاتورية"، إلى جانب تصريح فابيوس بأن "جبهة النُّصرة" تقوم بعمل رائع في سوريا... وما لا يتَّسِع له المجال للحديث عن نشاط ليفي وتآمره.
هؤلاء يوقِّعون على بيان يريد المحافظة على "إسرائيل" لمواجهة "الإرهاب الإسلامي"، وهو ما يعني أمرين: الأول أن التآمر على سوريا لا ينفصل إطلاقاً عن التآمر على فلسطين. ولو لم تخرج سوريا منتصرةً لَما كانت هناك فرصة لخروج فلسطين كذلك (وهو درس نأمل في أن تكون "حماس" فهمته، ونعرف أن عُقلاءها لم يَغيبوا عنه يوماً، وها هم يغسلون القلوب بالدم). كما أنه لولا انتصار حرب تموز/يوليو 2006، ولولا تَراكُمُ الانتفاضات والنضالات، لَما وصلنا إلى هذا اليوم. والثاني أن تهمة الإرهاب لا ترتبط بالدين والتديُّن، وإنما بالموقف من خدمة الغرب و"إسرائيل". فـ"الجهاد الإسلامي" المناضل النقيّ، "إرهابي"، أمّا "النُّصرة" المجرمة، فلا.
2- إنّ مطالبة بعض الفلسطينيين، ومَن يدّعون تأييدهم، بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الدينية، في الأرض المحتلة، لا تعني شيئاً إن لم تتأسَّس على المطالبة بالحقوق السياسية والوطنية، والتي تعني أولاً وأخيراً السيادةَ على الأرض، وإلاّ فإننا نكون، كما قال الشابّ الرائع، عُمّالاً وافِدين، كما الهنديُّ في الخليج.
3- الثالث هو ربط المسيحية بالجذور اليهودية. فهذا موضوع شائك، كم كتبنا عنه، وبشأنه (وخصوصاً أنا، والزميلَ الراحل جورج حداد) مئاتِ الدراسات والمقالات، ونبَّهنا من خطر تهويد المسيحية، الذي يسري في الغرب، على الرَّغم من معارضة شديدة له يُبديها الكاثوليك التقليديون، وهي معارضة وصلت إلى المحاكم. وعليه، كنا ننبّه من عدم تسرُّبه إلى الكنائس الشرقية، وخصوصاً السورية (سوريا التاريخية مهد المسيحية ومدارسِها وفقهها)، بينما يقودنا هذا الأمر إلى أخطر ما يُطرَح الآن على بساط التطبيع، مما يسمونه "الديانة الإبرهيمية"، والذي مفاده أن عملية تهويد ثقافي- ديني ، تضع الإسلام والمسيحية في خدمة اليهودية، وهو ما دعا إليه حاخامات وباحثون، على رأسهم الحاخام إلْمِرْ بيرغر بعد أول هزيمة عسكرية عام 1973. وسينشط طرحه الآن بعد عام 2021 انطلاقاً من المنصة التي أُقيمت في الإمارات بعد التطبيع... أقول أُقيمت لأن مَن يُدير المشروع أكبر كثيراً من الإمارات.
4- الرابع أن هذه الملاحظة تجعلنا نتوقَّف أمام دعوة رجب طيب إردوغان، خلال العدوان الأخير، إلى جعل القدس تحت إدارة لجنة من الأديان الثلاثة، وهو اقتراح يتجاوز الدعوة القديمة إلى تدويل القدس، إلى المناداة بتدويلها دينياً. وكأن هذا الرجل الذي يدَّعي الإسلام، ويمارس سياسة قومية تركية عثمانية بامتياز، يعتبر أن القدس أرض بلا شعب يُديرها. فهل سيدعو غداً إلى وضع مكة المكرَّمة، أو مقامات النجف وكربلاء، أو مشهد وقُم، تحت إدارة متعددة الجنسيات؟
5- أمّا الخامس، فهو أن انتماءات الموقِّعين الستّين على البيان المذكور، تتوزَّع على اليسار واليمين وأقصى اليمين، على نحوٍ يذكّرني بما قاله لي، عام 2008، هيوبرت فيدرين، وزير خارجية ميتران: "اليسار لم يعد يساراً، واليمين لم يعد يميناً". هو اكتفى بهذا. لكننا نعرف أن اختراق اللوبيات الصهيونية، بالإضافة إلى وجود أعضاء هذه اللوبيات في صفوف الجميع، واختراق اللوبيات المالية المسلَّحة بالفساد والإفساد، جعلت الخريطة متشابكةً في ما يتعلَّق بالقضايا العربية، وخصوصاً القضية الفلسطينية، وكل محور المقاومة الذي يحدِّد مصيرُه مصيرَها.
نقلا عن: الميادين نت
حياة الحويك عطية: كاتبة وباحثة
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 570 مرة