نص المحاضرة الأولى من سلسلة محاضرات الهجرة النبوية 1441هـ للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي
أُعُوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّداً عبدُه ورَسُوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأخيارِ المنتجبين، وعن سائرِ عِبَادِك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
أولاً: نتوجه بالتبريك والتهاني إلى شعبنا العزيز وإلى أمتنا الإسلامية بمناسبة حلول العام الهجري الجديد، هذه المناسبة التي تذكِّرنا بالهجرة النبوية، هجرة النبي -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- من مكة إلى المدينة، بكل ما لهذا الحدث من أهميةٍ كبيرةٍ بالنسبة للأمة الإسلامية، بلغت في أهميتها لدرجة أن تُعتمد للتاريخ الإسلامي لهذه الأمة، بكل ما لهذا من دروس ودلالات وما فيه من عبر تحتاج إليها أمتنا في هذه المرحلة الحسَّاسة والمهمة من تاريخها، تحتاج إليها بشكلٍ كبير للاستفادة منها فيما تواجهه من تحديات، وفيما عليها أن تنهض به من مسؤولية.
ثانياً: نتوجه بالإدانة والاستنكار لما ارتكبه تحالف العدوان الأمريكي السعودي من جريمةٍ بشعةٍ وحشية بحق الأسرى الذين استهدفهم بغاراتٍ جوية في سجن ذمار، السجن الذي يستقرون فيه في محافظة ذمار، هذه الجريمة الوحشية، التي هي كسابقاتها من الجرائم اليومية من تحالف العدوان التي يرتكبها بحق شعبنا العزيز، هي- كما قلنا- تعبِّر عن السلوك الإجرامي الذي اعتمد عليه تحالف العدوان كوسيلة وكممارسة مستمرة، يهدف من خلالها إلى كسر إرادة شعبنا في الصمود، كما أنَّ هذه الجريمة وهي استهدفت أسرى ممن كانوا مقاتلين في صفوف العدوان، من الموالين للعدو، ممن أسروا من جبهات القتال، وكان عددٌ كبيرٌ منهم يتهيأ للخروج ضمن صفقة تبادل بجهود محلية، فإذا به يستهدفهم، ويقتلهم بغارات جوية، وهو يعرف أنهم أسرى، وأنهم كانوا مقاتلين في صفوفه، وأنهم يتواجدون في ذلك السجن، مع معرفة من جانب المنظَّمات المعنية، والمنظَّمات الإنسانية، والمنظَّمات التابعة للأمم المتحدة، مع كل هذا وذاك يستهدفهم عمداً، في جريمة كبيرة وحشية أسفرت عن مقتل الكثير منهم، العشرات منهم، لا يزال البعض منهم تحت الأنقاض، والعمل على استخراج جثامينهم مستمر، والعشرات الذين قتلوا بهذه الغارات الإجرامية والوحشية.
تعبِّر هذه الجريمة الوحشية عن حقد، وتعبِّر أيضاً عن إفلاس إنساني وأخلاقي، وتعبِّر عن تخبط وانسداد أفق لتحالف العدوان في معركته العبثية والظالمة ضد شعبنا العزيز، كما أنَّها أيضاً تقدِّم شاهداً- مع الكثير والكثير من الشواهد اليومية- على أنَّ تحالف العدوان يستبيح كل أبناء شعبنا العزيز، على أنه يتعامل بحقد ولا إنسانية ولا مسؤولية مع كافة أبناء هذا البلد، حتى تجاه الموالين له، وهناك الشواهد الكثيرة، والأحداث المتتابعة، والممارسات الكثيرة جداً والواضحة، والتي يتحدث حتى الكثير من الموالين لتحالف العدوان عنها: كيف يتعامل معهم، كيف هي ممارساته بحقهم، كيف هي سياساته وتصرفاته في المحافظات المحتلة، كيف يتعامل حتى في جبهات القتال مع أولئك الذين باعوا أنفسهم له، خانوا من أجله وطنهم، وخانوا من أجله شعبهم، وخانوا من أجله قيمهم ومبادئهم ودينهم، وباعوا كل شيءٍ من أجل الحصول على مكاسب تافهة وأموال قليلة منه، فتجنَّدوا في خدمته ضد أبناء شعبهم، والبعض لتصفية حسابات وأحقاد، وهم يصيحون اليوم في كثيرٍ من الحالات والمناسبات والتعبيرات التي يُقرُّون فيها ويشهدون من خلالها على هذه الممارسة الظالمة، القائمة على الاحتقار والاستباحة والاستهتار والاستخفاف، يعني: أنَّ تحالف العدوان على مستوى الأمريكي، وعلى مستوى السعودي والإماراتي ومن معهم، لكن من لهم دور أساسي في هذا العدوان يعبِّرون بكل وضوح في اعتداءاتهم هذه حتى بحق من يقف معهم، من يقاتل معهم، من قدَّم الخدمات لهم، من ناصرهم ضد شعبه وأمته ووطنه، يعبِّرون بهذه الجرائم، ويشهدون على أنفسهم من خلال هذه الممارسات أنه: لا كرامة عندهم لأي يمني، أي يمني وقف بصفهم، قاتل معهم، أيَّدهم، بارك جرائمهم بحق شعبه، تحرَّك معهم في الميدان يقاتل ويقتل من أبناء بلده، لا كرامة له عندهم، لا قيمة له عندهم، فهل هذه تكفي ليراجع البعض حساباتهم، ولينظروا في حقيقة الحال أي مستقبلٍ يمكن أن يكون مع أولئك الذين لا يحسبون لك أي حساب، ليس لك عندهم أي كرامة، لا قيمة لك عندهم، أي مستقبل مع هؤلاء، وهم في أي لحظة يمكن أن يقتلوك؟ يمكن أن يقتلوك في أي لحظة، يمكن أن يتصرفوا تجاهك بأي تصرف، وهذا حصل الكثير منه، مثلاً: في كثير من الجبهات يقدِّمون من اشتروهم للقتال من خونة بلدنا، من المتورطين في الخيانة من أبناء شعبنا يقدمونهم في جبهات القتال، ثم يأتي السعودي ليكون من خلفهم، أو الإماراتي ليكون من خلفهم، عندما يتراجعون في الزحف وينكسر الزحف يقومون بقتلهم من الخلف، أو أحياناً يقومون بمباشرة القصف عليهم؛ للضغط عليهم للتقدم رغماً عنهم، حتى لو كان في ذلك هلاكهم، يعني: لا قيمة لهم عندهم أبداً، يعتبرونهم بضاعة، هذه العقلية السعودية والعقلية الإماراتية يعتبر الآخرين سلعة كسائر السلع، كما لو اشترى بعيراً، أو كما لو اشترى غنماً، أو كما لو اشترى بقراً، أو كما لو اشترى... أي سلعة من السلع، سلعة يعتبر أنه سيتصرف فيها كيفما يشاء وكيفما يريد ولو بشكلٍ عبثي.
أنا أتوجه بالنصح في هذا المقام لكل الذين يقاتلون في صف العدوان، لكل الذين يبعثون أبناءهم، أو يغضون الطرف ويسكتون ويتجاهلون ذهاب أبنائهم إلى صفوف تحالف العدوان، للقتال ضد أبناء بلدهم (ضد شعبهم)، أتوجه إليهم بالنصح أن يتقوا الله في أنفسهم، أن يراجعوا حساباتهم، هذه المغامرات الخاطئة، هذه الخسارة الرهيبة جداً في غير محلها، وخسارة لا أجر عليها من الله، ولا ثمرة لها في واقع الحياة، هل يمكن أن يكسب الإنسان أجراً من الله وهو يقاتل مع المعتدين، الظالمين، المجرمين، المتوحشين، ضد أبناء بلده؛ بهدف التمكين لأعداء بلده من احتلال هذا البلد والسيطرة عليه؟
اليوم نسمع أولئك الذين يتحالفون مع العدوان، يقفون في صفه، يتورطون في خيانة بلدهم ويقفون مع المعتدي الأجنبي، نسمع اعترافاتهم: أن الذي يجري هو احتلال، وهو عدوان، وهو وفق أجندة لصالح تلك الأطراف الأجنبية التي لها أهدافها الخاصة، وأجندتها الخاصة، ولها مؤامراتها وحساباتها، السعودي يحرص على أن يسيطر بشكلٍ مباشر على شبوة، وحضرموت، والمهرة، والإماراتي يسعى إلى أن يكون مسيطراً على عدن، ولحج، والضالع، وأبين، يتوزَّعون الحصص، ذاك تحت العباءة البريطانية، وذاك تحت العباءة الأمريكية، والدور الأساسي على الكل هو للأمريكي أكثر حتى من البريطاني، لكن هذه الظروف التي شهدنا فيها الكثير من الأحداث، من بينها الأحداث الأخيرة في عدن، الأحداث الأخيرة في شبوة، الأحداث الكثيرة التي نجد فيها ما يدل بشكلٍ واضح على مدى السيطرة على مسرح الأحداث، وعلى الوقائع، وعلى المواقف من جانب الأجنبي، وكيف يؤدب أولئك، تلك الأدوات التي هي ليست إلا أدوات محلية، كيف يؤدبها إن هي خرجت- ولو قليلاً- عن مسار توجيهاته وأوامره، عندما تقدم البعض إلى عدن تقدموا بغير إذن، لم يكونوا قد استأذنوا من السعودي كما يبدو، وكما يظهر، وصلوا إلى هناك، ولأنهم تقدَّموا بغير إذن، خارج سياق التوجهات والأجندة الخارجية؛ طردوا فوراً، وقتلت أحلامهم وآمالهم، وعاشوا الحسرة والأسف الكبير جداً، والامتعاض الشديد، وأذلوا، وأهينوا، وقهروا، وقتلوا، وطردوا بصورة مهينة جداً، خلال ساعات وصلوا إلى هناك ظهروا في حالة من الابتهاج والسرور والفرح الكبير جداً، بعد ساعات قليلة طردوا، أذلوا، أهينوا، لم يتلقوا أي حماية ولا مساندة من السعودي؛ لأنهم لم يكونوا قد استأذنوا منه، وبالتالي كانوا يستحقون- بنظره- التأديب؛ لأنهم تجاوزوا حدودهم، ليس من المسموح لهم أن يخرجوا ولا قيد أنملة عن المسار المحدد الذي يخدم حصرياً مصالح الأجنبي، إذا أرادوا- كأدوات محلية- أن يتحركوا وفق حساباتهم، وفق مصالحهم، وفق طموحاتهم. هذا غير متاح، غير مسموح؛ إنما يكونون في حالةٍ من الخضوع التام، والانضباط الشديد والدقيق، والالتزام الحرفي وفق أوامر الأجنبي، أي وضعيةٍ هذه! أي مهانةٍ هذه! أي استعبادٍ هذا! لماذا ترضون لأنفسكم بكل هذا الذل، بكل هذا الامتهان، بكل هذا القهر، بكل هذا الاستغلال؟! ألا حمية فيكم؟! ألا رجولة فيكم؟! ألا شرف لديكم؟! لا، بالتأكيد لا، لا حمية، لا ضمير، لا شرف، لا غِيرَة، إفلاس، إفلاس، عندما يصل الإنسان لدرجة أن يبيع شعبه، أن يبيع حريته، أن يبيع استقلاله، أن يبيع كرامته، وأن يتنكَّر لكل هذا، وأن يقف في خندق العدو بسلاحه، بلسانه، بموقفه؛ ليستهدف كل هذا: يستهدف شعبه، واستقلال بلده، وكرامة شعبه، ويتحول البعض إلى غطاء سياسي، والبعض إلى بوق إعلامي، والبعض إلى ذراع عسكري، والبعض... وهكذا كلٌّ يؤدي دوره بحسب مؤهلاته وطاقاته وخبراته، في هذه الحالة الإنسان الذي وصل إلى هذا المستوى ويعيش حالةً من الإفلاس الفظيع، الإفلاس الشنيع.
اليوم ماذا ستقولون وقد قاموا هم بقتل الأسرى الذين هم منكم؟ أُسِروا وهم في الجبهات يقاتلون، استقبلهم الجيش واللجان الشعبية بحسن الاستقبال وفق المبادئ والقيم الإسلامية، استقبلوهم بالاحترام، بالإنسانية، استضافوهم، ذهبوا بهم إلى هذا المعتقل في ذمار، عاشوا فيه ظروفاً طبيعية، تم التنسيق مع الأمم المتحدة، مع المنظَّمات للتأكد أن هؤلاء الموجودين في هذا السجن هم من الأسرى، زارتهم منظمات لعدة مرات، تم التنسيق مع أهاليهم؛ حتى يتمكن البعض من أهاليهم- ممن هم في المناطق الحرة هذه- من زيارتهم والاهتمام بهم، عاشوا وضعيةً طبيعية مستقرة، ثم عند الاتفاق على عملية تبادل، على صفقة تبادل بجهود محلية، إذا بالمعتدي الأجنبي يأتي ليقتلهم، ليقتلهم عمداً عدواناً، جريمة وحشية، استهانة، استباحة، يفترض أن يكون لكم موقف، إذا لم يكن لكم موقف أمام كل هذه الأحداث أنتم تخسرون أكثر فأكثر.
وفي هذا درس لكل أبناء شعبنا العزيز، درس كبير جداً، علينا أن لا نألوا جهداً كشعبٍ يمني في الدفاع عن كرامتنا، عن حريتنا، عن استقلالنا، في التصدي لهذا العدوان، أمام هذه الاستباحة من الأعداء، أمام هذا الامتهان، أمام هذا التعامل الوحشي والممارسات الإجرامية اليومية، لا يجوز أبداً أن نرضى على أنفسنا بهذه الاستباحة، أن نقبل بهذا الانتهاك للكرامة، أن نقبل وأن نتجاهل ما يحدث، لا، لا يجوز هذا، انتمائنا الإسلامي للإسلام الدين العظيم، دين الحرية والكرامة، دين العزة، هويتنا الإيمانية (الإيمان يمان)، والله يقول عن المؤمنين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8]، كذلك هويتنا الإيمانية، وقيمنا التي تربينا عليها جيلاً بعد جيل كشعبٍ يمني، بالحرية، بالاستقلال، بالكرامة، بالعزة تأبى لنا أن نقبل، أو أن نتجاهل، بل يجب أن تُشكِّل كل هذه الانتهاكات والجرائم اليومية حافزاً ودافعاً بشكلٍ مستمر، ودافعاً كبيراً- وليس دافعاً عادياً- إلى تحمل المسؤولية، التي هي مسؤولية علينا أمام الله -سبحانه وتعالى- في التصدي لهذا العدوان، بكل أشكال التصدي، أن نسعى دائماً لتظافر الجهود في كل ما من شأنه أن يعزز موقفنا في التصدي لهذا العدوان، في الوصول إلى الانتصار، في احباط أهداف هذه القوى الشيطانية المعتدية، إلى كذلك إفشال أهدافها الخطيرة جداً في تمزيق بلدنا، في استعباد شعبنا، في السيطرة على مقدراتنا، هذا ما يجب أن نسعى له.
في مناسبة حلول العام الهجري الجديد، واستذكارنا للهجرة النبوية كمحطة تاريخية عظيمة ومهمة ارتبط بها تاريخنا الإسلامي، هناك الكثير من الدروس والعبر التي نحن بحاجةٍ إليها، الحديث عنها ليس حديثاً ترفياً، ليس حديثاً فائضاً عن الحاجة. لا، نحن كأمةٍ مسلمة بشكلٍ عام، كل المسلمين في هذا العالم- ونحن كشعبٍ يمني بين هذه الأمة- في أمسِّ الحاجة إلى الاستفادة من هذه المحطة التاريخية المهمة والعظيمة، والتي ترتبط أيضاً بسيرة رسول الله محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- قدوتنا وأسوتنا وهادينا، الذي نحن في أمسِّ الحاجة إلى الاستفادة من سيرته، إلى الاهتداء به، إلى الاقتداء به، إلى العودة إلى مسيرة حياته ومسيرة دعوته وجهاده؛ لنستفيد من عطائها الواسع والغني، الذي نتزود منه المبادئ، والقيم، والأخلاق، والزكاء، والحكمة... إلى كل ما نحتاج إليه في مسيرة حياتنا، ولمواجهة ما يواجهنا من تحديات وأخطار، وهي كثيرة في هذا العصر.
الهجرة النبوية، النبي -صلوات الله عليه وعلى آله- هاجر من مكة المكرمة، بالرغم من قداستها، ومن أهميتها، هاجر إلى المدينة (يثرب)، دروس وعبر مهمة جداً؛ لأن هذه الهجرة أتت بسبب فقدان مجتمع مكة لصلاحية أن يكون هو الحاضن للرسالة الإلهية، والحامل لرايتها، فقد صلاحية هذا الدور المهم والعظيم، وهذا الشرف الكبير، في مقابل أنَّ مجتمع يثرب (الأنصار) كان قد تهيأ لهذا الشرف الكبير، ولهذه الفضيلة العظيمة.
إذا جئنا لندرس أسباب الهجرة، وظروف المجتمع في مكة التي أوصلته إلى أن يفقد صلاحية النهوض بهذا الدور، وأن يتقلد هذا الشرف الكبير والفضيلة العظيمة، فنعود لدراسة المسألة من مرحلة تاريخية متقدَّمة سابقة، تعود مسألة مكة المكرمة ومسألة مبعث الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- في جذورها الأولى تعود بنا إلى خليل الله ونبيه إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه-.
نبي الله ابراهيم -عليه السلام- عندما هاجر إلى فلسطين واستقر هناك، ذهب من فلسطين بأمرٍ من الله -سبحانه وتعالى- إلى مكة، في مكة بَوَّأ الله له مكان بيته الحرام، يعني: علَّمه مكان البيت، وهيَّأ له المعرفة به، والعمل فيه، ليكون هذا البيت الحرام بقدسيته العظيمة (الكعبة المشرَّفة بقدسيتها العظيمة)، ليكون المعنيّ بهذه المهمة في بنائه، في الدعوة للحج إليه، في القيام بأمره هو نبي الله إبراهيم -عليه السلام- ومن بعده ومعه أيضاً، معه ومن بعده ابنه نبي الله اسماعيل -عليهما السلام-.
عندما وصل نبي الله إبراهيم إلى مكة المكرمة، وهيَّأ الله له وعلَّمه مكان البيت، فأعاد بناءه بمعيَّة ابنه اسماعيل -عليهما السلام- أعاد بناءه- كما ورد في القرآن الكريم- وشيَّده، ودعا الناس للحج إليه؛ ليمثِّل مرتكزاً مهماً للدين الإلهي وللرسالة الإلهية، ومرتكزاً أيضاً لمرحلة آتية، مرتكزاً في وقته، ومرتكزاً في ختام الرسالة الإلهية، ولذلك كان إلى جانب بناء هذا البيت الحرام خطوة مهمة من جانب نبي الله ابراهيم هي: أنَّه أسكن من ذريته (ابنه اسماعيل -عليه السلام-) أسكنه في مكة بجوار هذا البيت، وأناط به مهمة القيام على هذا البيت معه، ثم من بعده، ثم ذريته كذلك، يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج: 26-27]، فالله -سبحانه وتعالى- أناط بإبراهيم هذه المهمة؛ ليجعل من هذا ركيزةً أساسية في الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- في ترسيخ مبدأ التوحيد لله -سبحانه تعالى- والكلام يطول حول طبيعة هذه الركيزة الإلهية التي ارتبطت بمقدَّس من المقدسات: هو الكعبة البيت الحرام، والذي ارتبطت به شعائر معينة: هي فريضة الحج, وارتبطت به القبلة أيضاً للصلاة والعبادة، وجُعِلَ مثابةً للناس وأمناً، ثم إلى جواره هذا الدور الذي كان ملاصقاً له، مرادفاً له، مرتبطاً به، بل معنياً به وقائماً عليه، وهو دور ابنه اسماعيل، القائم على هذا الدور ضمن الرسالة الإلهية، ولهذا استمر هذا الدور، نبي الله ابراهيم قال -عليه السلام- كما حكا الله عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إبراهيم: الآية37]، فهو أسكن من ذريته من يستقر في مكة المكرَّمة، هذا الفرع وهذا الدور المرتبط بالبيت الحرام ارتبط به دورٌ مستقبليٌ مهم، وادَّخره الله -سبحانه وتعالى- لهذا الدور الآتي في زمن البعثة، بعثة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-.
إبراهيم -عليه السلام- دعا الله -جلَّ شأنه- كما يقول الله في القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة: 126-129]، نجد في هذه الآيات المباركة أنَّ إبراهيم سأل من الله -سبحانه وتعالى- أن يهيئ لهذا الفرع من ذريته الظروف المعيشية التي تساعدهم على الاستقرار في تلك المنطقة غير الزراعية؛ لأنها منطقة غير زراعية، وأن تتوفر لهم الظروف التي تساعدهم على الاستقرار على المستوى المعيشي، وعلى المستوى الأمني؛ لأنه طلب من الله أن يجعله (بَلَدًا آمِنًا)، الأمن أولاً، ثم قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}، ثم دعا بالرزق؛ لتتوفر العوامل المساعدة على مستوى الاستقرار الأمني، والاستقرار الاقتصادي والمعيشي التي تساعد على القيام بهذه المسؤولية كمسؤولية، المتعلِّقة بهذا الدور ضمن مرتكزه المهم البيت الحرام.
طبعاً هو في طلبه من الله طلب الرزق لمن آمن من ذريته ومن أهل هذا البلد الحرام، أن يرزقهم الله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، لكنَّ الله قال له: {وَمَنْ كَفَرَ}، يعني: أنه سيرزق المؤمن والكافر منهم؛ لأن هذا شيءٌ مهم في حكمة الله وتدبيره لصالح البلد الحرام والبيت الحرام وشعائر الحج، يعني مثلاً: لو كانت ظروف سكَّان هذا البلد الحرام ظروف اقتصادية لو كانت ظروفاً اقتصاديةً صعبة؛ لتحولوا إلى لصوص، ونهَّابين، وقاطعين للطرق، ومرتكبين لأبشع الجرائم بحق الحجاج، ولأثَّر هذا على وضع الحجاج بشكل كبير جداً، فمن أهم ما يُلحظ في هذه الآية المباركة أنَّ سعة الرزق لسكَّان البلد الحرام، لسكان مكة، أو حتى لما هو أوسع مثلما يرى البعض اليوم فيما عليه الوضع بالنسبة للسعودية أنها بلد من أثرى بلدان العالم، ومن أغنى بلدان العالم. هذا ليس شاهداً على أنهم على خير، وفي حق، وعلى حق، ومن أهل الإيمان والصلاح؛ لأن الله وعد بسعة الرزق في هذه الآية المؤمن والكافر من سكَّان ذلك البلد، {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا}، هو بالنسبة للسيء منهم هو متاع قليل، {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} فيما بعده جهنم -والعياذ بالله- {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}، كان البناء لهذا البيت الحرام كمشروع إلهي ترتبط به هذه المبادئ العظيمة: مبادئ التوحيد، مبادئ الإسلام لله -سبحانه وتعالى- القيم الإلهية؛ ليكون أيضاً حاضناً للمشروع الإلهي وللرسالة الإلهية، ثم هذا الدعاء للذرية: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}، ثم الدعاء بعد ذلك: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، فكان هذا الفرع الذي ادَّخره الله من ذرية إبراهيم -عليه السلام- في مكة المكرمة ليكون منوطاً بهذا الدور ضمن الرسالة الإلهية، ومدَّخراً لمستقبل الأيام لتكون فيه البعثة بخاتم الرسل والأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وهو رسول الله محمد -صلوات الله عليه وعلى آله-.
استقر إسماعيل ضمن هذا الدور، استقر هذا الفرع جيلاً بعد جيل، مع طول الزمن، وامتداد الزمن، وتعاقب الأجيال، بدأت الانحرافات، بدأت المتغيِّرات تدخل في هذا الفرع نفسه: في ذرية إسماعيل -عليه السلام- مع أنَّها تكاثرت هذه الذرية إلى أن أصبحت قبيلةً كبيرة، ثم تعاظمت فيها الانحرافات والمتغيرات والسلبيات، وتأثَّرت بمحيطها الإقليمي والعالمي، وكثرت فيها الانحرافات إلى أن وصلت إلى الانحراف في العقيدة، إلى الإخلال بمبدأ التوحيد لله -سبحانه وتعالى- وصلت إلى مستوى الشرك بالله -جلَّ شأنه- إلى أن امتلأ المسجد الحرام وامتلأت مكة بالأصنام، مئات الأصنام، إلى أن حدثت الكثير من الاختلالات على مستوى المبادئ، والقيم، والأخلاق، والانحراف على مستوى التفاصيل في الشريعة... انحرافات كبيرة؛ لأن المدة كانت الآلاف من السنوات، منذ عهد نبي الله إسماعيل إلى عهد نبي الله محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- متغيرات كثيرة داخل هذا الفرع، وفي هذه البيئة، وفي هذه الركيزة الإلهية التي شابها الكثير من المؤثِّرات السلبية والمتغيرات السلبية، مع ذلك بقيت هي بالمقارنة مع محيطها في العالم، في المنطقة، بقيت هي البيئة الأنسب، والبيئة الأفضل، والبيئة المهيأة والمدَّخرة لتكون انطلاقة الرسالة الإلهية الخاتمة منها.
هذا ما سنتحدث عنه- إن شاء الله- في يوم الغد.
نكتفي بهذا المقدار...
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه عنا، وأن ينصر شعبنا المظلوم، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، إنه سميع الدعاء.
والسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 401 مرة