إعـادة كتابة تاريخ اليمن الإسلامي ..........د/ حسـن مجلـي
إعـادة كتابة تاريخ اليمن الإسلامي السلطنات الأجنبية الطغيانية في اليمن
الإهـــــداء
إلى ذكرى إمام المجتهدين ورائد العدل والتوحيد، الذي أحلّ أحكام الشريعة الغراء محل قواعد الطاغوت و الوحدة محل الانقسام، الفقيه والعالم الزيدي المجدد، الهادي إلى الحق (يحيى بن الحسين) عليهما السلام، لقد جاهد الإمام العظيم صادقاً لتوحيد اليمن على منهج المسيرة القرآنية والقضاء على السلطنات والإمارات الطغيانية الفاسدة فيها وأقام أول دولة مدنية إسلامية يمنية.
وإلى الجيل اليمني القادم لكي يتعرف، بالدراسة والمقارنة، على معالم السلطنات الطغيانية القديمة مع مقاربتها بالسلطنات المعاصرة في اليمن، ولكن تحت مسميات مخادعة.
وإلى اللجنة المكلفة بوضع دستور جديد لليمن على أساس من تقسيمه إلى أقاليم تمهيداً لاحتلال السعودية لحضرموت اليمنية مثلما احتلت أراضي (إقليم عسير) اليمنية في ظروف تآمر استعماري رجعي عربي ومحلي شامل ضد اليمني وطناً وشعباً كما يحدث الآن.
وإلى روح المؤرخ الراحل (سلطان ناجي) الذي وضع الخطوط الأولية لهذا البحث وإحياءً لذكريات المقيل معه في منـزله بـ (خور مكسر) خلال الأعوام 1970 - 1975م، حيث كان المقيل يعج بالمثقفين والأدباء والشعراء من مختلف الاتجاهات والمشارب وخاصة دعاة الوحدة اليمنية التَّدَرُّجِيَّة وأصحاب الدعوة إلى وحدة يمنية فورية، ومنهم الشعراء والأدباء والصحفيين والقانونيين الراحلين (محمد سعيد جرادة) و (فضل النقيب) و (د. عبدالرحمن عبدالله) و (عمر الجاوي) و (القرشي سلام) و (عبدالرحمن فخري) وآخرين، بعضهم قضى نحبه اغتيالاً أو كمداً ومن تبقى منهم لا زال ينتظر، وأنا أحدهم، قال تعالى: ((ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)) [سورة الأحزاب، الآية (23)]، وليت الراحلين المذكورين عاشوا إلى اليوم ليروا صدق ما كان بعضنا يقوله في نقاشاتنا خلال جلسات المقيل تلك.
تنويـــه :
يطلق على معظم العصابات السياسية والعسكرية والاقتصادية الأجنبية التي حكمت اليمن لفظ (دولة) بينما الحقيقة هي أنها لم تكن دولاً ولكنها (سلطنات) أو (إمارات) تحكمها إرادة السلطان أو الأمير وعصابته وأتباعه وأعوانه وتتحكم فيها مصالحهم الخاصة.
ولعله سيغضب الكثيرون من أحفاد وأنصار السلاطين والكَتَبَة والمماليك وعبيدهم والإخباريين المقلدين التابعين المغرضين وأشباه السلاطين المعاصرين من قادة العسكر الانكشارية ومشائخ الطاغوت القبيلي وشيوخ الكهنوت والإرهاب باسم الدين، بسبب هذا البحث، ولكنه قد آن الأوان لإعلان الحقائق أمام طوفان تزييف الوعي الشامل.
ومن خلال السرد التاريخي سيلاحظ القراء أن اليمن لا زال يحكمها مماليك جدد توارثوا الطغيان عن أسلافهم جيلاً بعد جيل، إنه (نظام السلطنة) الممتد منذ أمد بعيد، ولكن في شكل مختلف وتحت مسميات زائفة.
وقد انتهيت من كتابة تاريخ السلطنات والإمارات الطغيانية الفاسدة في اليمن وأهمها: السلطنة الأيوبية، والسلطنة الطاهرية، والسلطنة الرسولية، وسوف نبدأ بـ (السلطنة الأيوبية).
الجزء الأول
السلطنـــة الأيوبيـــة
[569هـ - 626هـ / 1174 - 1226م]
احتــلال اليمــن :
جاءت القوات الأيوبية المرسلة من (صلاح الدين الأيوبي الكُرْدي) لاحتلال اليمن، ونزلت سواحل (زبيد)، وسرعان ما عصفت بـ (الدولة المهدية) هناك وقبضوا على السلطان واستصفوا الكنوز والأموال التي كانت مدفونة في قبر أبيه ثم قتلوه. ويظهر أن (عبد النبي بن مهدي) لم يتخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة الغزو الأيوبي، فقد كان يستهين بقوة العدو ويُمني أصحابه بأن الغزاة سيبادون بعد المعركة الأولى، فما هم إلا (أَكْلَة رأس).
وبعد الاستيلاء على (زبيد) اتجهت (الجيوش الأيوبية) الغازية نحو (تعز) و (الجند) و (عدن) و (صنعاء)، وقد سقطت جميع هذه المناطق في أيديهم وقضي على السلطنات اليمنية الثلاث (المهدية) و (الحاتمية) و (الزريعية) واختيرت (تعز) بسبب هوائها بدلاً من (زبيد) لتكون العاصمة للسلطنة الأيوبية في اليمن.
وبعد أن استتب الأمر لـ (توران شاه) ونهب ما استطاع من اليمن وطغى وبَغَى، طلب من أخيه (صلاح الدين الأيوبي) أن يسمح له بمغادرة اليمن إلى (مصر) فسمح له بذلك وولّى بدلاً عنه نواباً من المقربين إليه، وكانوا من (الترك) و (الأكراد) و (الشركس) على مناطق البلاد ومن بينهم كان (عثمان الزنجيلي) النائب على (عدن) وما ناهجها، وقد استطاع (الزنجبيلي) أن يمد سلطته إلى (حضرموت). ففي عام 575هـ تجهز بمن عنده واتجه إليها واستولى عليها بعد أن قبض على أمرائها اليمنيين وجعل عليهم عاملاً (مسئولاً إدارياً) من عنده، ولما مات (توران شاه) في (مصر) أظهر نوابه الخلاف على الدول الأيوبية وامتنعوا عن إرسال الخِرَاج إلى (مصر) وقسموا اليمن إلى أقاليم (ولايات) كل إقليم يتبع واحداً منهم، وضرب كل منهم سِكة (عُمْلة) باسمه ومنع أهل ولايته (إقليمه) من التعامل بغيرها، كما قام كل منهم يصارع الآخر من أجل توسيع مناطق الإقليم الذي تحت نفوذه أو التابع له( ).
فأرسل إليهم (صلاح الدين) قائده (خطلبا) لاستعادة السيادة الأيوبية وقد عاد الصراع من جديد بين النواب الأيوبيين عقب وفاة (خطلبا) فأرسل إليهم (صلاح الدين الأيوبي) أخاه (طغكتين) فقضى على تمردهم وهرب (الزنجيلي) من البلاد، وقد استعاد المقاطعات التي كان (بنو حاتم) قد أعادوا احتلالها فتصالحوا معه مقابل دفعهم أموالاً ورهائن.
ولم يتوقف الطاغية (طغكتين) عند ذلك بل فتح مناطق جديدة ووسع رقعة السلطنة الأيوبية، فقد دخل (كوكبان) وفي عام 586هـ سار إلى (صعدة) على طريق (الجوف) وفي الأخير اقتحم (حضرموت) واستولى عليها.
وهكذا احتل سائر جبال اليمن ومدنه وحصونه ومخاليفه من (صعدة) إلى (عدن) وزالت سلطنة (الصليحي) و (الحاتم) الإسماعيلية من قُطر اليمن من ذلك الزمن بعد أن ملكوا صياصيه ونواحيه ودان لهم مطيه وعاصيه، كما يقول بعض المؤرخين.
حيـــاة الطغـــاة :
لما استقر الطاغية الأيوبي (طغكتين) في مدينة (تعز) (إقليم الجَنَد) عمل على أن يوفر لنفسه وحاشيته وأتباعه حياة أرستقراطية باذخة فصرف همته إلى بناء الدور وتشييد القصور له ولأعوانه وجلب المياه إليها، واستخراج الأنهار وغرس البساتين الواسعة بأصناف الأشجار حتى لقد قيل أنه أرسل لجلب الشتلات والبذور إلى أرض (مصر)، ثم فرض ضرائب جديدة، واختط مدينة (المنصورة) قِبْلي (الجَنَد) وأجرى الغيل إليها من (جبل صَبر) وقد بنى فيها قصراً وحماماً وجعله استراحة له يأتي إليه أحياناً، وأمر معظم جنده بالإقامة فيها لحراستها، ومن مبانيه الأخرى (قصر الجَنَد) القديم وجدد عمارة (حصون التعكر) و (حَبّ) و (تعز) وأسوار مدينتي (زبيد) و (صنعاء) وخطَّ في (صنعاء) البستان المعروف بـ (بستان السلطان) المنسوب إليه والذي لا يزال يعرف بذلك إلى اليوم، وبنى فيه الدور والمعارج وأماكن اللهو، وأجرى إليه (غيل البرمكي) كما بنى (الدار السلطانية) في (صنعاء) وبالغ في بنائها وزخرف غرفها بالذهب وألوان الصناعات وجمّل فيها حماماً وبركة يطلع فيها (الشاذروان) وأجرى الأنهار حولها، كل ذلك من الأموال التي كان يقوم بجبايتها من الشعب اليمني الذي كان يعاني من المجاعة والمرض والظلم.
اليمن ملكية خاصة :
في أواخر أيام الطاغية الأيوبي (طغكتين) أخ (صلاح الدين الأيوبي) ونائبه في اليمن قرر امتلاك كل أراضي اليمن العامة والخاصة بما في ذلك أموال الأوقاف وتمليكها للسلطنة الأيوبية وتدوينها في سجلاتها، ولذلك فقد ندب المثمنين إلى سائر البلاد بأسرها وأمرهم أن يثمنوها، وأراد أن تكون أرض اليمن كلها لـ (الديوان السلطاني) ويكون من أراد من اليمنيين حرث شيء منها وصل إلى أهل (الديوان السلطاني) الأيوبي فاستأجر منهم كما هو في أراضي الخِرَاج، فشق ذلك على أهل اليمن غاية المشقة لأنه لم يعتمد أحد من الملوك قبله ولا بعده ذلك الأمر الخطير المتمثل في مصادرة أموال المواطنين جميعاً لحساب السلطنة الطغيانية، كما يؤكد ذلك كافة المؤرخين والإخباريين.
إلا أنه بينما كان رجاله يطوفون بالبلاد لحصر الأرض وأثمانها مات (طغتكين) فجأة فبطل ذلك الأمر كله، وقيل أنه مات مسموماً. وعلى العموم فقد كانت اليمن أثناء القرون الوسطى وبالذات إبان (حكم الطغاة الأيوبيين) وتابعيهم (الرسوليين) و (الطاهريين) تحكمها الأرستقراطية العسكرية والإقطاع المشائخي القبيلي الطاغوتي المتحالف معها، كما كان الحال في (مصر المملوكية) ووزعت الإقطاعيات بين الطغاة والبغاة والأذناب من اليمنيين على ذلك الأساس، وما أشبه اليوم بالبارحة!!.
آكِل اللحم البشري :
عندما مات الطاغية الأيوبي (طغكتين)، خَلَفه، بناءً على مبدأ التوريث السلطاني، ابنه (المعز إسماعيل)، وتعتبر فترة حكمه من أسوأ فترات الحكم الأيوبي لليمن، فقد كان ظالماً جهولاً غشوماً من (أصحاب السُّنَّة والجماعة)، ويقال أنه تحول إلى (المذهب الإسماعيلي).
لقد كان حفيد (صلاح الدين الأيوبي) الحاكم الأيوبي لليمن المسمى (المعز إسماعيل) سيء السيرة مع أجناده ومع أهالي اليمن على السواء ناكثاً للوعود محباً لِلَّهو والمجون ولسفك الدماء، ولم يقف عند ذلك الحد بل ادعى النبوة ومنها تحول إلى الخلافة، حيث أعلن نفسه عام 598هـ خليفة للمسلمين، وظهرت من أحواله أنواع من السخافة فوردت عليه من أهله في (مصر) رسائل ينكرون فيها فعله أشد الإنكار فلم يبال بها بل تمادى في التجاهل والإضرار وساءت سيرته وخبثت سريرته وقَتَل كبار أصحابه، بل إنه أولع بأكل لحوم البشر، وقد أدت سياسته تلك إلى أن يتآمر كبار القواد المماليك والأتابكة عليه وأن يلتحق عدد كبير منهم ومن أجناده بقوات (الإمامة الزيدية) رائدة الكفاح الوطني لاستقلال اليمن، وقد كان مصير الطاغية الأيوبي القتل على أيديهم، وتروي كتب التاريخ أن جسده ترك على الأرض وشوهدت الطير (عاكفة) عليه تأكل من مجر رأسه، وهذه هي عاقبة الطغاة الفاسدين المصابين بجنون العظمة.
سياسية الاغتيالات والثورة :
بعد اغتيال (المعز) اضطرب أمر (الأيوبيين) في اليمن وقام الجنود (الأكراد) بنهب بعض المدن اليمنية كـ (زبيد) فأصبح (الأتابكة) والقُوَّاد التركمان هم الحكام الفعليون لليمن فاضطهدوا أهله أيما اضطهاد، ففي (صنعاء) مثلاً نجد أحد عمال الطاغية (وردسان) يقوم بالقبض على الكثير من (أهالي صنعاء)، وبعد أن ملأ بهم السجون باشرهم بالضرب والتعليق والعصر للأرجل والرؤوس والتحريق وهُتِكَت المحارم وفُعِلَت العظام (الأفعال الإجرامية الجسيمة)، وعُذِّبَت النساء بنحو ما عذب به الرجال، حسبما تواتر في كتب التاريخ.
وفيما بينهم البين لجأ سلاطين (بني أيوب) وقوادهم التركمان إلى دس السم لبعضهم البعض فمات أكثرهم مسموماً. إنه تاريخ مراكز القوى الطغيانية الفاسدة، التي لا هَمّ لها إلا الحصول على السلطة والمال بأي ثمن وأسلوب، الممتد عبر التاريخ حتى اليوم.
الثـورة الوطنيـة الزيديـة :
بدأ الخروج والثورة على الحكام الظلمة الذين جرّعوا الشعب الويلات تحت نير الظلم والأوضاع الاقتصادية المتردية وانعدام الأمن وعادت (الإمامة الوطنية الزيدية) لتنشط من جديد مستفيدة من السخط الشعبي الشامل ضد ظلم الطغاة الأجانب وأذنابهم المحليين، وقد قام بالإمامة الزيدية وقاد الكفاح الوطني ضد المحتلين الطغاة وأعوانهم من البغاة المحليين، الإمام والفقيه المجتهد (عبدالله بن حمزة) الذي بدأ دوراً جديداً من الصراع العنيف ضد الأيوبيين (الخروج على الحاكم الظالم الفاسد والجهاد ضده)، وقد عرض على الإمامة الزيدية سلاطين (حضرموت) خدماتهم لمحاربة الأيوبيين.
وفي آخر أيام (بني أيوب) أجمع (الجنود الغز) المحتلون لليمن على تولية أمرهم للنساء استهانة باليمنيين، فلما قدم رجل من (بني أيوب) من (مصر) إلى (اليمن) سائحاً في زي الدراويش والصوفية طلبت النساء الأيوبيات منه القيام بأمر الحكم فقبل ذلك، ولكن سرعان ما انشغل بملذاته الجنسية أكثر من اهتمامه بأمور الحكم في اليمن، وفي أيامه استطاعت (الإمامة الزيدية) التي كانت قد وصلت إلى (ذمار) أن تشن الغارات حتى وصلت إلى (لحج) و (أبين). وفي عام 611هـ اضطر الملك الأيوبي المسمى (المسعود) أن يأتي شخصياً إلى اليمن من (مصر)، وبعد أن هدأت الأحوال نوعاً ما عاد إلى مصر عام 619هـ، بعد أن جعل أمر اليمن إلى (نور الدين عمر الرسولي) الذي ما إن مات (المسعود) حتى استقل بحكم اليمن وأنشأ على أنقاض السلطنة الأيوبية سلطنة (بني رسول).
لقد شغل حكم الأيوبيين لليمن وأعوانهم الشعب بحروب تكاد تكون مستمرة من أجل الفتح والتوسع والطغيان والنهب والاستغلال، ولم يكن الهدف من العمل على إقرار الأحوال في البلاد إلا تمكين المحتلين من تحصيل الأموال وترسيخ الاحتلال.
كذلك عمل قادة الغزاة المحتلين على التخلص من نفوذ نوابهم والقضاء على أطماعهم الاستقلالية، وقد كان لاعتماد بعض السلاطين الأيوبيين على فرق الجيش المملوكية الأجنبية المسماة (الأتابكة) أثره في نقل السلطة الفعلية إليهم، وقد تميز آخر الاحتلال الأيوبي لليمن بالمنافسات والمؤامرات داخل البلاط السلطاني بين المماليك (الأتابكة) و (الأجناد)، وهذه الحالة مهدت لـ (نور الدين) (الرسولي) أن يحقق طموحاته وينقل السلطة إليه.
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 3756 مرة