(الصنعانية) .. وعوامل صمود اليمن ....... بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
(الصنعانية) .. وعوامل صمود اليمن
بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
نجح اليمن بصموده أكثر من 10 شهور في تثبيت الوعي العالمي عن السعودية بأنها مهما بدت متنمِّرة فهي أعجز من أن تحقق عسكريا شيئا يمكن الاتكاء عليه استراتيجيا؛ فقد سخر وزير الخارجية السوري وليد المعلم، معلقا على خبر استعداد السعودية لإرسال قوات برية إلى بلاده: "ماذا فعلت السعودية في اليمن"، وذات السخرية في نفس الموضوع دارت على لسان المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ووصف البريطاني جيم سبينسر وهو قائد مشاة متقاعد، والمحلل المتخصص في شؤون اليمن في مقالة غنية مدعمة له بعنوان (هل ستنجح السعودية في استعادة هادي رئيسا لليمن؟)، مؤرخة 3 فبراير، وصف اليمن بأنها (فيتنام السعودية)، مرجحا فشل السعودية في هذه الحرب. غير أن المهم هو معرفة أن هذا ليس لعجز تحالف العدوان وضعف إمكاناته، ولكن يعود بالدرجة الأولى لعوامل عديدة عزّزت حالة القوة والمنعة لدى اليمنيين وصنعت ملحمة الصمود الأسطورية التي سيقف عندها التاريخ مليا.
إن النزعة الدينية والعقيدة الإسلامية التي تربى عليها اليمنيون، والتى هي في مجملها ومنبعها حالة ثورية تغييرية تثور على الواقع السيئ الذي تعيشه – يعتبر رافدا مهما لتشكيل حالة الصمود لليمنيين؛ ليس في هذا العصر فقط، بل على مر العصور السابقة، والدين الإسلامي بمصدره القرآني والنبوي يستثير بذاته معاني القوة ومواجهة الظالمين والمستكبرين. الدين منهج بطبعه يشعل الثورة على الظالمين، ويقدس حياة الإباء والتمرد على الطغاة والمستكبرين، أليس القرآن في مجمله يجعل محور العبرة التاريخية هو ذلك النبي أو الرسول الوحيد الذي يسارع إلى الإيمان به أولئك الضعفاء والمساكين، والذين سرعان ما يقفون في وجوه طغاة زمانهم، ومتكبري أوانهم؟!
وبالتتبع نجد أن حالات الثورة على الغزاة والمتكبرين في تاريخ اليمن أنها انطلقت من منطلقات إيمانية، فعلى سبيل المثال خاطب زعماء التحرر اليمني على مر التاريخ الشعب بخطاب ديني يستثير فيهم معنى الواجب، ويستظهر عليهم بفضيلة التحرك الجهادي، واعتبار ذلك فريضة مقدسة، وما ذلك إلا لأن هذا الشعب شعب متدين بفطرته، وإن كان تدينه في طابعه العام لا يحبذ التشدد والتطرف.
الحالة اليمنية الدينية كانت قد التقت بالثورية والانتصار للحق مهما كان الثمن في وقت مبكر في الإسلام، حتى قبل وصول الفكر الزيدي الثوري إلى الحكم فيه، وهو الفكر القائم على المنهجية الثورية كما هو معروف، ويسطع نجمه دائما في مواجهة الغزاة والظالمين، ففي الثورات اليمنية ضد ولاة بني أمية ثم ضد ولاة بني العباس، في القرنين الأول والثاني الهجريين والنصف الأول من القرن الثالث الهجري، حيث لفتت الكثير من الباحثين، وألقت لهم بإيحاء بأن هذا الشعب لا يمكنه السكوت على الظلم، ولا يقبل حياة الخضوع والاستعباد، ولما وجِد الفكر الزيدي بشكل رسمي في آخر القرن الثالث الهجري في البلاد، إذا بنا نجد حالة من الانسجام والوئام بين هذا الفكر وبين الطبيعة المجتمعية والثقافية الدينية اليمنية، وكأنهما كانا يبحثان عن بعضهما. ونحن نستذكر في هذا الصدد موقف الإمام طاووس اليماني (ت106هـ) وابنه عبدالله بن طاووس (ت132هـ) من حكام عصرهما، وهما من أهم أئمة الحديث والعربية في العالم الإسلامي آنذاك، بل إن صنعاء هذه المدينة المقدسة، عرفها المؤرخون بأنها المدينة التي لا يصلي أهلها خلف حكام الجور والظلم، وبات مصطلح (صنعاني) في قاموس المحدثين - يعني رفض أهلها الصلاة خلفهم؛ صنعاء هي نفسها التي قبض فيها على إمام الاعتدال محمد بن إدريس الشافعي متلبسا بتهمة الثورة مع أهل البيت في عهد الرشيد العباسي، ويبرهن المؤرخ الجندي في القرن السابع الهجري أن ذلك لا يزال هو السائد عن صنعاء ونواحيها حتى عصره. والامتناع عن الصلاة الذي أصبح مرادفا لكلمة (صنعاني) تعبير ديني عن منهجية ثورية ترفض الظلم والاستبداد والخنوع، وهذا يبين مدى تلاحم الثورية الفكرية الدينية بالطبيعة اليمنية.
هذا المفهوم الفكري والديني (الصنعاني) أصبح من أصول الدين بإرساء الزيدية تقاليد الرفض للظالمين، والثورة عليهم، واعتبارهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب الجهاد بين يدي القائد المحق اصلا أصيلا في الدين لا يجوز التنازل عنه، وهو ما أعطى زخما تاريخيا للثورات في اليمن، وكان الداعم الرئيس لتلك المقاومات العنيفة التي شهدها التاريخ تجاه الغزاة الأجانب في اليمن، ولهذا لم يقر لهم قرار في هذه المنطقة من العالم، وهي التي تشبعت بروح الثورة والانتفاضة والرفض للأجانب وللظالمين، بدءا من عصر الدولة الأموية و العباسية إلى العثمانية والاحتلال البريطاني والتدخل المصري، حتى وإن رفع الغزاة شعار الدين الجامع وعالمية الإسلام فإن اليمنيين لم ينخدعوا بذلك ورفضوا الانصياع له.
اكتسب التاريخ اليمني إذًا تطبيقات واسعة، عبّرتْ عنه مقولة (مقبرة الغزاة) أو (مقبرة الأناضول)، وتجمع كتابات المؤرخين ونتائجهم أن هذا الشعب يظل عصيا على الاحتلال والغزو، وأنه لن يكسر، ولن يهزم، إلا حينما تنكسر إرادته الداخلية وينشغل ببعضه، وأصبح التاريخ اليوم بما يمثل من ذاكرة ثقافية ووطنية عاملا مهما من عوامل تشكُّل حالة الصلابة والصمود هذه التي يعيشها شعبنا اليمني اليوم أمام هذا العدوان الصلف.
ساهمت إلى حدٍّ كبيرٍ الثقافة الوطنية والعروبية في هذا الوضع القوي، فالثقافة اليمنية التي تنتمي للأرض، وتمجدها، وتصنع علاقة استراتيجية معها باعتبارها أرضا زراعية، طالما أحبها الإنسان اليمني، وعشقها، وسكب دموع الشوق وهو يهيم بها، وعاش من خيراتها، ينظر إلى السماء، لكي تصل محبوبته الأرض بما ينعشها، فيزهو وينشد فخرا، ويترنم من جمالها مجدا وعشقا، لا شك أن لها أثرا مهما في إسناد العوامل الأخرى في ملحمة الصمود هذه. وبينما يقتنع اليمنيون جميعا بما فيهم أولئك المصطفون مع العدوان أن من يغزو اليمن اليوم ويحتله هم دول الاستكبار وأدواتهم في المنطقة إسرائيل والسعودية والإمارات التي تقف دائما على طرفي نقيض مع قضايا الوطن وسيادته، وقضايا العرب والمسلمين العادلة، ومنها القضية المركزية فلسطين. وهذا ما عزّز الوعي لدى المواطن اليمني البسيط أن معركتنا هذه لا تفصلها مسافات كبيرة عن معركة فلسطين، أو رفض التسلط والهيمنة الأمريكية.
جغرافيا يرى المحلل الأمريكي روبرت د. كابلان، والذي اعتبرته مجلة السياسة الخارجية واحدا من بين أفضل مئة مفكر عالمي، في كتابه الشهير (انتقام الجغرافيا) الذي صدر في عام2012م، أن اليمن - بما تمثله هضبتها الجبلية البازلتية الشاسعة – يعتبر "القلب الديموغرافي البالغ الأهمية" في شبه الجزيرة العربية، ويصفها بأنها التي "لم يتمكن العثمانيون ولا البريطانيون من السيطرة عليها أبدا"، و أن شعبنا لم "يكن مستعمرة حقيقة على الإطلاق"، وينقل عن عنصر مخابرات أمريكي التقاه في سفارة بلده عند زيارته لصنعاء قوله: "هناك أكثر من عشرين مليون شخص مكافح، وذي عقلية تجارية، ومسلح تسليحا جيدا، وكل منهم يعمل بجد مقارنة بجيرانهم السعوديين، إنها المستقبل، وهو ما يصيب الحكومة في الرياض بالقلق"، وهو وإن ظهر بنبرة تحريضية ضد اليمن، توصّل من خلالها إلى أن الخطر على السعودية كنظام يأتي من قبل اليمن برجالها وجغرافيتها، فإنه يجب أن نقر له ببعض هذه الحقيقة. فإذا كان العدوان السعودي الأمريكي بكل ما أوتي من قوة عسكرية وتمويل هو الأعلى عالميا، يعجز عن تحقيق شيء يذكر حتى في المناطق التي تخدم طبوغرافيتُها أطماعَه، فكيف به الحال لو وصل إلى عمق هذه الهضبة الجبلية التي شكّلت انطباعا أسطوريا يشي بالهيبة والمنعة والجلال والعزة.
من ناحية أخرى لا تخفى على المتابعين الجهودُ والأموال الضخمة التي وظفها النظام السعودي لـ(وهبنة) المجتمع اليمني خلال عقود، لإحداث انقلاب في طبيعة هذا المجتمع ووعيه التاريخي وثقافته الدينية الأصيلة والتزامه بقيمه اليمنية والثورية، فإن تأصُّل حالة النفور من الذلة والضيم والظلم في نفوس اليمنيين يشير إلى استحالة تحقُّق أيٍّ من أهداف هذا العدوان، وأنه في أسوأ الأحوال بافتراض خضوع بعض المناطق لسيطرته أو نفوذه لاعتبارات مالية أو فكرية فإن المستقبل بهذه العوامل المتأصلة كفيل بتكدير حياة الغزاة وأذنابهم من المرتزقة المحليين والعالميين.
يهوِّل ويضخِّم العدوان أي تقدم من جهته، بينما يقلل ويهون من شأن اليمنيين وعوامل قوتهم وصمودهم، غير أن ما لم يفهمه العدوان ولا محللوه السطحيون المتأثرون بالأطروحات الإخوانية والوهابية التي لا تستبطن حالة المجتمع وخلفياته المتنوعة بشكل جيد - هو عامل الحراك الثقافي الجهادي الذي صار ثقافة عامة لشباب ونساء وأطفال الأرياف اليمنية وكثير من مدنها في هذه الهضبة الخطيرة، هذا الحراك يبدو اليوم دينامو هذه القوة الصامدة على الأرض، والتي تسطّر أجمل وأروع وأقوى صفحات البطولة والتضحية والشجاعة.
إن هذا التحول الاجتماعي الثوري الذي انطلق من أدبيات المسيرة، من ملازم السيد الشهيد حسين بدر الدين رحمة الله تغشاه ومواقفه ومحاضرات أخيه السيد القائد عبدالملك الحوثي وعبقريته القيادية، التي آثرت تفعيل المجتمع بما أجمع عليه المسلمون ورفض أو تأجيل المختلف فيه، لقد حملت تلك الأدبيات في خطابها الثوري الجهادي هموم الأمة ومن خلال آيات القرآن الكريم الثورية والجهادية فشكلت وعيا بأهمية التحرك في هذا الإطار، وهذه القوافل من المجاهدين والثوار والمقاتلين التي تعشق الموت كعشق الغزاة للحياة لم تأت من فراغ، إنه الفكر الحي، والروح المتجددة، والثورة المستمدة فعاليتها وقوتها ونماءها من الدين، ومن التاريخ، ومن الذاكرة الوطنية والعروبية والإسلامية، وهو الأمر الذي أخفق في فهمه كثير من هؤلاء، وحين فهمه العدوان ومنظروه كانت استجابتهم له استجابة سلبية، أيدّت الأطروحات والتوقعات التي حملتها هذه الأدبيات وتوقعتها سابقا.
أما إذا أضفنا النفسية التدميرية المتوحشة التي ظهر بها العدوان من أول يوم، وأنه ظهر جليا كأوقح وأجبن وأقذر وأشنع عدوان عرفه اليمنيون، وقد جلب المتردية والنطيحة من شذاذ الآفاق من أصقاع الكون، وأنه لا مشروع لدى عملاء العدوان وعلى رأسهم الدمية هادي وحكومة بحاح سوى الفوضى وتسليم البلاد للحركات التكفيرية العنفية كما يحدث في عدن والجنوب، فإن الشعور السائد الآن لدى مختلف الفئات اليمنية أن هذا عدوان سافر يستهدف الجميع في وجودهم وحياتهم الحرة الكريمة، وأنه لا خيار له إلا القتال حتى الانتصار، وهو الخيار الوحيد الذي يمضي فيه هذا الشعب حتى بعد عشرة أشهر من العدوان، وهو الخيار الذي سينقذ اليمن من آثار سيئة قد تمتد لعشرات السنين.
فهل ستتخلى صنعاء عن (الصنعانية) فتتخندق في صف (بلاك وتر) وهي التي رفضت حتى عبدالملك بن مروان، وهارون الرشيد، وسليمان القانوني.
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 2195 مرة