الجنوب والتيه في السراب .. بقلم حمود عبدالله الأهنومي
الجنوب والتيه في السراب .. بقلم حمود عبدالله الأهنومي
لا يشير الوضع في الجنوب أنه ذاهب باتجاه الاستقرار الإيجابي تحت الوحدة العادلة أو حتى الاستقرار السلبي في ظلال الانفصال، بل تدل العوامل والمتغيرات على الأرض على مؤشرات خطيرة تتجه نحو التشظي والتناحر ودخول الجنوب في منعطف خطير يتّسم بالعنف والصراع واللارؤية والارتهان للأجنبي الغازي وضعف الحس الوطني التحرري.
في آخر الأسبوع الماضي نشر أحد كتاب القاعدة في الجنوب مقالة أوحت أن هناك توفُّزًا وتوقعا بحدوث صدامات وشيكة بين جماعة القاعدة وحلفائها من جهة والتحالف السعودي الإماراتي من جهة أخرى، وهو أمر كان متوقع الحدوث لدينا بمقتضى العوامل والمعطيات على الأرض والتي تسوق إلى نتيجة سيئة، لا تبشر بخير، ولا تفضي إلا إلى مزيد من الاقتتال والتناحر والتباين، هدّدت المقالة قوات التحالف بالذبح والأسر إن اتخذت قرارا بمواجهة القاعدة؛ الأمر الذي يثبت أن شهر العسل بين القاعدة وأخواتها في الجنوب من جهة وقوات التحالف المعتدي على اليمن من جهة أخرى قد أوشك على النهاية، ويثبت أيضا مصداقية ما ردده الجيش واللجان الشعبية أن حربه في الجنوب كانت ضد هذه الفئات العنفية التي لا تؤمن بالاستقرار ولا بالأوطان.
تدعي القاعدة أنها تولَّت كِبْرَ مناهضة الجيش اليمني واللجان الشعبية في الجنوب، والذي كان قد جاء استجابة لرغبة السعودية وأمريكا وبتمويل التحالف ومن خلال مدرعاته وقصفه الجوي والبحري المكثف، وقد تحدث جلال بلعيدي من زعماء القاعدة في وقت سابق عن مشاركة ميليشياته بشكل رئيس في عملية مناهضة الجيش واللجان الشعبية في الجنوب، عازيا لها الدور الأكبر والأول، متهما أن هناك من يريد اقتطاف الثمرة على حساب جهودها وإنجازاتها.
ومما لا شك فيه أن القاعدة انتفخت كثيرا بدعم التحالف لعناصرها على الأرض بأنواعٍ مختلفةٍ من الأسلحة والمدرعات، القاعدة التي سلكت أسلوب (التخادم) بينها وبين قوات التحالف حيث خدمت هي التحالفَ السعودي الأمريكي بعناصرها وأفرادها على الأرض لقتال أنصار الله، وخدمها التحالفُ بتزويدها بالأسلحة والأموال وبالغطاء الجوي المكثف، وكان كلاهما يتحرك بأولوية مواجهة الجيش اليمني واللجان الشعبية وتوحيد الجهود ضد هذا العدو المشترك؛ وتأجيل الخلافات والفصل فيها إلى ما بعد تحقق الغرض التكتيكي، لكنها خلافات سوف لن تجد لها إلى الحل سبيلا؛ لعمقها وجوهريتها وحدّيتها الشديدة.
يبدو أن لدى القاعدة انتشارا ملحوظا في محافظات عدن وأبين والبيضاء وشبوة وحضرموت التي لا تزال تحت سلطتها حتى اللحظة، وتظل هي التحدي الأبرز للتحالف وعملائه من بعض تيارات الحراك الجنوبي والإسلاميين للإجابة عما إذا كانوا ينوون فعلا استعادة الاستقرار في الجنوب تحت الوحدة المزعومة أو حتى الانفصال.
وفي الوقت ذاته نجد داعش فرع اليمن وقد انتشر في مناطق لحج الساحل، حيث يحرصون على الوصول إلى منفذ بحري يمكِّنهم من الاتصال بدولة خلافتهم الداعشية في العراق وسوريا، ومع ذلك يبدو أن داعش لم تكسب كثيرا من الحرب في الجنوب لعدم رغبة التحالف بذلك أولا، ولقوة منافسته القاعدة هناك.
أثبتت الأحداث الماضية أن المزاج الجنوبي الديني قد تغير لحساب الجماعات الإسلامية، وتبيّن أن للجماعات السلفية - التي ظلت تقليدية وبعيدة في توجهها العام عن العمل السياسي –حضورا واسعا، وتأثيرا فعالا في الجنوب ولا سيما في محافظة عدن؛ ومن المرجّح أن من خرج للقتال منهم ضد الجيش واللجان الشعبية لن يعود إلى حلقات العلم وحفظ الأربعين النووية بسهولة، بل ستشهد القاعدة وداعش والإخوان استقطابا حادًّا لأفراد هذه الجماعة السلفية والذين أغرتهم الأحداث الماضية على حمل السلاح واكتشاف هواياتهم القتالية الجهادية ضد من يعتبرونهم كفارا أو معتدين.
يعاني الجنوب من انقسام الإسلاميين المذهبي بين جماعات السلفية الوهابية الحنبلية ممثلة بالقاعدة وداعش وبعض الإخوان والسلفية التقليدية من جهة، وأتباع المذهب الصوفي الشافعي من جهة أخرى، والذين يتم الاعتداء على آثارهم وقبور مشاهيرهم وأوليائهم في المحافظات التي تبسط الحركات الوهابية سلطانها عليها، كما يعاني أيضا من الخلاف بين السلفية من جهة والإخوان من جهة أخرى، لا سيما والإخوان يرتبطون بقطر وتركيا وبالسعودية لاحقا، بينما تدعم الإمارات السلفيين، وثبت أن الانقسام الخليجي كان سببا في صراع رفقاء السلاح في سوريا، ولا يُستبعَد تكرارُه في اليمن وبلدان أخرى، ثم هناك انقسام بين السلفية العلمية من جهة، والسلفية العنفية (الجهادية) من جهة أخرى، ثم هناك انقسام بين السلفية العنفية (الجهادية) بين داعش من جهة والقاعدة من جهة أخرى، وإن بدا أن هناك تواطؤا أو اتفاقا سريا قضى بتفادي الصدام كما حصل في سوريا بين داعش وجبهة النصرة ولو إلى حين، بحجة أن أرض الجنوب واسعة بما فيه الكفاية لتمدد كليهما.
ثم هناك خلاف جوهري بين هذه الجماعات الإسلامية التكفيرية منها والمعتدلة وبين جماعات الحراك الجنوبي التي تنحو منحى اليسار والبرجماتية وضعف الالتزام بالتدين السلفي، بالإضافة إلى الخلافات العاصفة بين تيارات هذا الحراك الجنوبي التي تتشكل وتتنوع بطريقة فوضوية مناطقية وقبلية وحزبية وتياراتية، الخلاف الذي ستتصاعد وتيرته في الأيام والأسابيع المقبلة، ولعل مدينة عدن مرشحة لهذا النوع من الخلاف، لا سيما في ظل وضع عصبوي لا يعطي طرفا من الأطراف القوة الكافية للسيطرة، في ظل غياب قيادةٍ ملهمة وذات مشروع مقنِع للجميع، وفي ظل بدائية تسويق المشاريع الصغيرة للجماعات المختلفة هناك.
القاعدة التي تعمل على إحداث الفوضى والاستثمار فيها، والتي أصبحت بعد ظهور داعش تعاني من صُداع تساؤل أتباعها: إلى أين، والتي تعمل أيضا في سياق التنكيل بالنظام العالمي والأنظمة المحلية – سوف لن تلتقى بداعش التي لها مشروع التمكين من خلال خلافتها المزعومة التي أظهرت وجودا وحشيا في العراق وسوريا ولها امتدادات في مصر وليبيا وأغلب بلدان العالم الإسلامي التي كانت سبقتها إليها السلفية، ثم هذان التنظيمان لن يلتقيا بالتأكيد مع النظرة الانفصالية لبعض تيارات الحراك لتناقض مشاريع كلٍّ مع الآخر، وهؤلاء جميعا لن يلتقوا مع مشروع الإخوان الذي يدعم الوحدة مع الشمال حفاظا على دمائهم الحزبية، ولو عبر حصان عبدربه هادي الذي ارتضوه رئيسا ليس حبا فيه ولكن كراهية في أنصار الله، وتمشيا مع رغبة التحالف السعودي الأمريكي في اليمن والذي لا يؤمن تغيره في أي لحظة.
وهناك من الإرث السيء لجنوب ما قبل ثورة 14 أكتوبر والواقع السلاطيني، وجنوب ما قبل الوحدة والتصفيات داخل قيادات الجنوب، والتي لا يزال بعضها مشاركا في أحداث اليوم بصورة شخصية، ما لا يسوق إلى استقرار في الجنوب، ثم قضايا الأرض التي أمّمها الحزب الاشتراكي والتي ظلت مثار نزاع وخلاف سابقا، ثم تلك الأراضي والمساكن والمنشآت التي تعود للنظام السابق الحاكم، ومثلها أراضي ومساكن وملكيات الشماليين الذين تم طردهم أو قتلهم، والتي بدون شك ستساهم في إثارة التنافس والتحاسد بين التيارات المتحكمة في المشهد الجنوبي.
إن هذا الكوكتيل المتناقض في الجنوب مضافا إليه توابل العدوان العالمي على اليمن والذي قدِم اليمن برؤوس متعددة، ويدور في داخل كل رأس مصلحةٌ وهدفٌ لا يعطي اليمن أولوية أبدا، فهدف الإمارات مثلا يختلف في بعضه وفي معطياته عن هدف ومعطيات السعودية، ومثلهما أمريكا وبريطانيا، هذه التوابل الحارة لن تزيد الوضع إلا التهابا وتأجيجا وتسعيرا؛ لا سيما وبريطانيا التي تساهم بشكل فاعل في هذا العدوان لا تزال ترى في مدينة عدن حقا تاريخيا لها، وباتت واضحةً مطامعُ أمريكا في جزيرة سقطرى وفي التحكم في خطوط الملاحة لضمان تدفق مصالحها، بالإضافة إلى انفتاح شهية بلدان صغيرة في التحكم والسيطرة في اليمن، ترى لنفسها مظهرا أكبر من حجمها مثل الإمارات، وهو مظهر خادع سيلقي بها في ورطة خطيرة لا تستطيع الخروج منها.
ساهم ضعف الدولة في اليمن في انفتاح شهية الدول الكبرى الاستعمارية ودول الخليج المرتبطة بمشروعها الاستكباري للتنافس في الأراضي اليمنية، وموقع اليمن الجغرافي مدعاة لسيلان لعاب هذه الدول التي تساهم بشكل أو بآخر في تدمير اليمن وتدمير مقدّراته، وهو الأمر الذي يجب أن يعيه أبناؤها الأحرار.
كل ما تقدم يفسّر لنا عدم قدرة حكومة هادي العميلة على العودة إلى عدن، كما يفسر تلك الحوادث الأمنية الغامضة والواضحة التي تحدث في الجنوب ولا سيما في عدن بشكل يومي، ويفسر تمسك القاعدة بحضرموت الساحل حتى اللحظة، كما يفسر قيامها بتفجير مقرات الدولة السيادية فيها، ويفسر تكذيبها لمزاعم الإمارات العربية بتحرير رهينة بريطانية، ويفسر عودة عمليات الاغتيال التي تطال المسؤولين الأمنيين، ويفسر قلق السعودية من تفرُّد الإمارات بالجنوب ومسارعتها بالإرسال لمئات من جنودها بحجة حفظ الأمن في عدن.
الأيام والأسابيع القريبة القادمة ملأى بالمفاجآت، وحبلى بالتطورات السريعة، والتي تثبت أن أمل الإخوة الجنوبيين في الاستقرار تحت أي كيان - كان سرابا خادعا.
لم يكن الاحتلال الأجنبي لبلد من البلدان ولا التدخل في شؤونه حلا لمشاكله في يوم من الأيام، وجميع التجارب التي كانت على هذا النحو كانت تجارب قاتلة للشعوب ومهلِكة للبلدان ومورِّطة للمجتمعات، ولم تفض أبدا إلى استقرار، بل جميع التجارب تخبر أنها خلقت مزيدا من الفوضى والدمار والاقتتال والاستعباد، وفي هذا ما يكفي للحذر وعدم الوثوق بمشاريع الاستعباد والاستكبار.
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 1782 مرة