فكر المجاهد وروحيته (3): إيمانه الغيبي وفكره حول المسؤولية وتوبته النصوح
فكر المجاهد وروحيته (3)
إيمانه الغيبي وفكره حول المسؤولية وتوبته النصوح
--
رابعا: يعبِّر سلوكه عن إيمانه باليوم الآخر
إن المجاهد الحقيقي هو الذي وهو في الحياة الدنيا الفانية ينظر إلى الحياة الأخرى الباقية، التي هي الحياة الحقيقية الدائمة، فكلما تحرك أو نكص، أو قدم أو أخر يقيسه بمقاييس الآخرة، ويضعه في موازينها، إنه دائم البحث عما يرضي الله، لا تطغيه الحياة الدنيا وشهواتها، ولا تستخفه أهواء النفس وملذاتها؛ ذلك أنه آمن بحتمية انتقاله إلى دار الجزاء والحساب والعقاب، ولهذا يسرع في مرضاة الله، ويبادر إلى التخلي عما يسخط الله، ويؤمن بحتمية الحساب والعقاب، والمكافأة لكلٍّ بما يستحقه، باعتباره مظهرا أساسيا من مظاهر العدالة الإلهية، (فَأَمَّا مَن طَغَى{37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا{38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى{39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى{40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{41} النازعات)، ويسعى المجاهد للفوز برضاء الله في كل حركة يتحركها وفي كل عمل يقدِّمه؛ ذلك أنه يعني الفوز بالنعيم الأكبر، والنصيب الأوفر، إنه الخلود في نعمة الله ورضوانه، والنجاة من سخط الله وغضبه، (أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) آل عمران136، (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيْمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّيْنِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ) [الانفطار: 14 ـ 16].
خامسا: يعتقد مسؤولية المكلّفين واختيارهم
يتحرك المجاهد في سبيل الله وهو يعي مسؤوليته ويتحملها سلبا أو إيجابا، ويتبرأ من عقيدة الجبر التي تسنِد أعمال العباد خيرَها وشرَّها إلى الله تعالى، يرى خطأ هؤلاء الذين يعملون الفاحشة ثم يرمون بها الأبرياء، فيقولون إن الله أمرهم بها أو قدرها عليهم أو قضاها، كما حكى الله عن أشباههم من المشركين، (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) الأعراف28، ويتحرك المجاهد في جهاده حركة دائمة ثقافية مندِّدة بالثقافة التي تشجِّع علي الممارسة الخاطئة، والسلوك المنحرف، الثقافة التي اختلقها الطغاة ليضربوا بها عنصر المسؤولية في حركة الإنسان على هذه الحياة، الثقافة التي تبرِّر للمجرمين ما هم فيه من الإجرام وتهوِّن عليهم ما يرتكبونه ضد الأمم، بتسويق عقيدة خاطئة هي الاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سيشفع للمجرمين، أو أنه سيساويهم بالمطيعين الطيبين، (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) غافر18.
سادسا: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
إن المجاهد وهو في ساحات الجهاد وميادين التضحية ينطلق أصلا من عقيدة قرآنية راسخة كانت سببا في تحركه وانطلاقته، وينسجم مع فريضة أصيلة من فرائض الدين الحنيف، إنها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنها فريضة الله عليه وعلى جميع المؤمنين، وما يقوم به من الجهاد هو سعي دؤوب نحو بناء الخيرات أو سعي دؤوب نحو نقض وإزالة المنكرات، وفي ذلك الفلاح والفوز والنصر، (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران104.
سابعا: تائب منيب إلى الله
قد يهرب أحدنا إلى حياة الجهاد لا لقناعة فيه ولكن هروبا من مشاكل الدنيا وتعقيداتها، أو لهواية الحرب والقتال، وهذا المقاتل يؤذي نفسه أوّلا ويؤذي مجتمع المجاهدين ثانيا، حيث يتحرك بما لا ينسجم مع قناعاته وأهدافه، فللجهاد أهداف وغايات نبيلة، ولهذا العنصر غاية مختلفة أو لا غاية له؛ الأمر الذي يجعله دائما في نزاع نفسي، واضطراب عقلي، وتخبط سلوكي، وما أكثر مشاكله وإيذاءه لنفسه وزملائه في المجتمع الجهادي، وربما ظهر للناس بأساليبه وسلوكياته المنفّرة فحمّلوا المجاهدين والجهاد جميعا تبعتها.
إنه من غير المعقول أن يتحرك المجاهد لبناء مجتمع إيماني ملتزم بنور الهداية وأحكام الفضيلة مستنيرا بهداية الله في الوقت الذي لا يمضي هو على درب تلك الفضيلة، ولا يستضيء بنور تلك الهداية؛ لهذا فالتوبة ركن أساسي من أركان التحرك الجهادي المثمِر والمفيد والذي يؤتي أكله بإذن ربه.
ويطلب الإسلام - دائما وبصورة ملحّة وحثيثة – من أبنائه المسارعة إلى التوبة النصوح، حيث هي البداية الصحيحة للتحرك الصحيح في المكان الصحيح ونحو الغاية الصحيحة.
ومع ذلك فإنه ينبغي التذكير أن انطلاق الرجل إلى الجهاد قد يكون سببا من أسباب اهتدائه وتوبته وتسديده من الله، إذا ما علم الله منه صدق التوجه وسلامة المقصد، والبعد عن الهوى، فالخير يهدي إلى الخير، ووضعُ المجاهدِ قدمَه في أرض الرباط مؤهِّل كبير للتوفيق والهداية والسداد، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت69.
لهذا يدرك المجاهد أهمية التوبة من حيث أنها تساعده على تصحيح وضعيته الجديدة في مجتمع الجهاد، وتقرِّبه إلى غايات الإسلام ومقاصده العظيمة، وتضع له استراتيجيته العامة بأهمية أن يكون التحرك قلّ أم كثُر، جلّ أم عظم، لله تعالى وحده، وطبقا لمواصفاته ومقاييسه.
إن المجاهد حين يتوب إلى الله فإنما ينفتح على مصدر القوة الروحية الوحيد والهادي للطريق المستقيم، ويمكّن نفسه الضعيفة من طاقات ربانية هائلة تزوده بالتقوى والثقة والصبر ووضوح الرؤية وغاية المقصد ونبل السلوك، إن التوبة حركة تصحيحية أساسية تزوّد صاحبها بالغنى الروحي والغنى المادي وبأسباب القوة والتوفيق واللطف، وهي بوابة رئيسة تمكن المجاهد من الحصول على معية الله وقوته ونصره، يقول الله تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) هود52، يجب أن نلاحظ قوله تعالى: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) في إطار تحركنا الجهادي الذي نحتاج فيه إلى القوة، وأفضلها القوة الروحية، أمام القوى الدنيوية التي ستتضاءل فعاليتها مهما عظمت أسبابها ومظاهرها.
كان أبو العتاهية حاكما على صنعاء، ورأى بعض الدلائل والكرامات التي تدل على فضل الإمام الهادي يحيى بن الحسين (ت298هـ) الذي ظهر بصعدة آنذاك، فانتفع بها وأضمر في نفسه التوبة ومتابعة الهادي ونصرته، فسلّم حكم صنعاء للهادي، وتاب توبة نصوحا، وأخلد إلى العبادة والزهد والجهاد، وأصبح أحد قادة الجهاد مع الإمام الهادي، وتاب إلى الله توبه نصوحا، توبة جعلته يرد أمواله الكثيرة التي ورثها عن أبيه إلى أهلها، فمثلا بعد أن استدعته امرأة ضعيفة لدى الهادي وحاكمته على أرضٍ كان قد أخذها أبوه على أبيها، وأقامت البينة على ذلك، حكم بها الهادي لها، فطاب أبو العتاهية بذلك نفسا، ورضي بحكم الله حكما، لقد أصبح يزهد عن المأكل والمشرب حتى أذاب لحمه، واغبرّ وجهه، وأزال ما كان يعلوه من النعمة والنضارة، حتى يضمن إزالة كل لحمٍ نبت من الحرام، ثم تتوّجت خاتمة جهاده الشريفة بأن أكرمه الله بالشهادة مع الهادي إلى الحق.
وهكذا هي التوبة حين تسلك في قلوب عباده التائبين المخلصين، ومن أكثر قربا من الله من المجاهد الذي بذل نفسه لله، يمكنه أن يكون على هذا النحو الذي كان عليه أبو العتاهية في جهاده وسلوكه وزهده وقناعته وعبادته لله، وما أكثر أشباه أبي العتاهية في شهداء عصرنا الحاضر.
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 1181 مرة