فكر المجاهد وروحيته (5): الانتظار لإحدى الحسنيين والاستبشار بالشهادة
فكر المجاهد وروحيته (5): الانتظار لإحدى الحسنيين والاستبشار بالشهادة
حادي عشر: ينتظر إحدى الحسنيين
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) التوبة52
ليس في حركة الجهاد خسارة حقيقية، فكيفما كانت النتيجة المادية فهو نصر وربح مادي أو معنوي، ونجاح وتوفيق، وإصابة لمراد الله عز وجل، مادام المجاهد مرتبطا بالله ولم يخرج إلا ابتغاء رضوان الله، وعند استبساله والتزامه بأوامر الله وصبره وثباته في الزحف يكون قد حقق هذا الهدف العظيم، وأجره قد ثبت عندالله، سواء انتصر المجاهد ماديا أو لم ينتصر، بل ناله حظ الشهادة، فهذه الهزيمة الظاهرية التي نالها المجاهد فتحت له بابا أعظم وخيرا أكبر وأجزل، إنه باب الشهادة.
يثق المجاهد في حركته مع الله بنصره تعالى، ويعلم أن النصر من عنده سبحانه، حيث هو القادر على كل شيء، وبيده مقاليد كل شيء، ولا تأثير للمظاهر المادية من عدد وعدة في النصر وحسم المعركة النهائية، وإن كان الله قد أمره بالإعداد المادي بحسب استطاعته ثم ما عليه إلا التوكل عليه سبحانه وتعالى.
خرج المسلمون إلى بدر بـ314 مقاتلا، أمام 1000 مقاتل من المشركين بعدة أقوى وأكثر، فنصرهم الله عليهم، وهم قلة، حينما صبروا واتقوا الله، (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{123} إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ{124} بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ{125} وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ{126} لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ{127} آل عمران)
لقد أمدهم الله بملائكته، الذين أصلا ما جعلهم إلا بشرى وتطمينا قلبيا، لقد كان الله معهم بأن أمدهم بنصر معنوي، ثبّت العزائم، وطمأن القلوب، هذا الإمداد المعنوي من الله يأتي نتيجة الارتباط بالله، والتقوى، والصبر، والانضباط للتعليمات الشرعية، حينئذ يتدخل الله بتأييده، (يمددكم ربكم)، لكن يجب أن نلاحظ أنه مع وجود الملائكة يقول الله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم).
إذا يثق المجاهد الواعي بنصر الله ويعلم أن عليه بذل أسباب النصر فقط، وأن الله ناصره بدون شك، فالنصر حليف المؤمنين، ويعي أيضا أن الهزيمة المادية في بعض المعارك لا تدل على أن الله ليس معه، أو على أن قضيته التي قد استبصر سلفا فيها قضية غير محقة، لقد كانت هناك انتكاسات مادية جزئية في تاريخ الإسلام، في أحد وفي حنين مثلا، لكنه كان النصر في آخر المطاف حليف المسلمين على الكافرين، فعلى المجاهد أن يعي ذلك جيدا.
ليس المجاهد مكلَّفا بالنصر المحتوم؛ لأن ذلك بيد الله وليس بيد أحدٍ غيرِه، ولكنه مكلَّف بفعل أسباب النصر المادية، من إعداد العدة، والتخطيط والتنفيذ الجيدين، والمواجهة والثبات، والأهم من ذلك أن يبذل الأسباب المعنوية من الارتباط بالله، والالتزام بأوامره، وتجنب معاصيه، وذكره والالتجاء إليه سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) محمد7، ثم إذا حصل بعد كل ذلك انهزامٌ أو تراجعٌ فإن هذا ينبئ عن خلل في الأداء أو يريد الله التمحيص لعباده المجاهدين، أو يريد معاقبتهم على خطأ وقع فيه بعضهم، بيد أنه في هذه الحالة والتي تبدو سيئة فإنه سبحانه وتعالى قد فتح لهم بديلا حسنا لا يقل عن الانتصار المادي، إن لم يفُقْه، إنه باب الشهادة العظيم أوسع وأجمل وأفضل وأكرم البوابات التي يعبر منها المؤمن إلى الله في الآخرة.
قد تكون الحكمة من وراء تلك الهزيمة أن يتخذ الله شهداء ويصطفيهم، وقد يريد التمحيص و(الغربلة) للمجاهدين، ليتميز المجاهد الصابر عن المتردد الخائر، يقول الله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) آل عمران141، يريد الله من وراء هذه الهزيمة الظاهرية تمحيص المؤمنين وابتلاءهم، أو يؤدبهم ليصلحوا أخطاءهم، ويراجعوا أداءهم، ويصلحوا مسارهم، أو ليميز الله الخبيث من الطيب ليتساقط ما علق بهم من المنافقين، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) آل عمران165، (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)) آل عمران. فالدنيا دار ابتلاء وتكليف وصبر ومكابدة، وتمحيص.
إذن لم يخرج المجاهد في خاتمته عن إحدى الحسنين النصر أو الشهادة وفي كل خير، والله يقضي ما يريد.
ثاني عشر: يستبشر بالشهادة، باعتبارها اختيار الله
(وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) آل عمران140
من آثار الشهادة أنها تحيي الهدف الذي قُتل من أجله الشهيد، فكم شهيد في قضية عادلة ظن الظالمون أنهم حققوا لأنفسهم به نصرا سرعان ما تبين أنهم إنما نصروا قضيته وأحيوا موقفه، ألم يحي الإمام الحسين عليه السلام ومن بعده الإمام زيد عليه السلام وكثير من أئمة أهل البيت معاني الإسلام وقيمه الرائعة، وأهدافه العالية من وراء استشهادهم، بعد أن أوغل بنو أمية والسلطات الظالمة في طمس معالم الإسلام.
إن للشهيد مكانة عالية ومنزلة رفيعة لا يوفَّق لها إلا من اختصهم الله من خاصة أوليائه، ولا زالت الشهادة في سبيل الله أمل الصالحين؛ لأنها أقرب وأكرم الطرق إلى لقاء ربهم، ومجاورة رسله، والفوز بالنعيم المقيم، وأكثر ما يعوقنا عن الجهاد هو خوف الموت والقتل، مع أن الموت آت لا محالة، بل لا سبيل إلى النجاة من الموت إلا بالشهادة في سبيل الله، فالشهيد ليس بميت، ألم يقل الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران169، (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا)، ويؤكد هذه الحقيقة بقوله تعالى: (بل أحياء عند ربهم يرزقون)، يجري عليهم الرزق، ولا يجري الرزق إلا على من هم أحياء. ثم يحدثنا عن حياة هؤلاء الأحياء أنهم (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ{171}) آل عمران.
الشهادة منحة الله لسائر عباده التي بها يمكنهم الترقِّي إلى معارج ومصاف الأنبياء والشهداء، إنهم خاصة الأولياء، وهي الموت الذي يعبُر منه الأولياء إلى الخلود في الحياة، فإذا كانوا قد أحبوا الموت ومغادرة هذه الحياة ابتغاء سبيل الله فإن الله أعطاهم الخلود جزاء على هذا الاستعداد الكبير.
سمى الله القتيل في سبيله شهيدا، وشهِد بمعنى حضر، ولأن الشهيد حضر في الموقف الحق الحضورَ القويَّ والفاعلَ بأغلى ما لديه، وهي نفسه وماله، رفعه الله بأن سماه شهيدا، أي حاضرا في الموقف الحق الحضورَ الفاعلَ الكامل، ثم كتب له الحضور والشهود الكامل أيضا في حياة البرزخ، فهو حاضر فيها حي يُرْزَق له أجرُه ونورُه، ثم هو أيضا في الآخرة حاضرٌ حضورا كاملا وشاهدٌ وموجودٌ، إن الشهادة التي يبدو صاحبها غائبا عن الوجود الزائف في الدنيا هي في الحقيقة حضورٌ قوي ودائم مع الله ووجودٌ مستمر أبديٌّ في رضوانه تعالى، في الدنيا ثم في الآخرة، وهو جزاء وِفاقٌ كتبه الله لهذا الصنف من الناس، الذين ضحَّوا بوجودهم من أجل وجود الآخرين، وشهدوا مواقف الحق تبارك وتعالى فأبدلهم الله بهذه التضحية بأن جعلهم موجودين دائما حاضرين في كل موقف وحياة؛ يقول الله تعالى عنهم: (بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، ويقول عز من قائل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) الحديد19.
في قمة حضور الشهيد وشهادته في جنب الله لم يكن يخاف القتل والتغيُّبَ عن هذه الحياة، ولم يمنعْه هذا القتل عن تقديم أغلى ما لديه؛ لأن الموت في سبيل الله تعالى كان أغلى أمانيه، مثلما كان عليه الأسلاف من أئمة أهل البيت سلام الله عليهم وشيعتهم رضوان الله عليهم، لقد ظل الإمام علي عليه السلام يطلب هذه الشهادة منذ أول يوم في الإسلام.
قال يوما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، و حيزت عنّي الشّهادة، فشقّ ذلك عليّ، فقلت لي : (أبشر فإنّ الشّهادة من ورائك) فجدّد له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التأكيد بنيله للشهادة لاحقا، قال له: (إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟)، أجاب الإمام علي إجابة العاشق الولهان لتلك الغاية العظيمة والنهاية المشرِّفة، قائلا: يا رسول اللّه، ليس هذا من مواطن الصّبر، ولكن من مواطن البشرى والشّكر" ؛ لهذا لما نال شرف الشهادة عندما ضربه ابن ملجم صاح: "فزت ورب الكعبة"، لأنه ظفر بشيء ظل عمره يبحث عنه ويتشوّق إليه.
لقد اعتبر أهل البيت الشهادة عنوان خير وموضوع كرامة، يقول الإمام الحسين عليه السلام: "القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة"، وفضلوا دائما القتل في سبيل الله على الموت على الفراش، لتعلِّقهم بما عند الله وانشدادهم إلى رضوانه تعالى.
وهذا لا يعني أن يفرّط الإنسان في ضمان سلامته الشخصية أثناء تحركه الجهادي، فهذا رمي بالنفس إلى التهلكة، وتفريطٌ لا يرضاه الله، وهو تمكين للأعداء أن ينالوا من أولياء الله، فالإمام علي وهو ذاك الذي كان يتشوّق ذلك التشوق للشهادة، كان في حروبه حذِرا، يتلفت أثناء قتاله يمينا وشمالا، ولا يكاد يظفر به أحد لشجاعته وحذره، وما أجمل المجاهد الذي يتحرك ومقصوده الأعظم كف بأس الذين كفروا، وزلزلة أركانهم، وتأمين المسلمين، ما أجمله وهو يحقّق ما ورد في دعاء الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام والذي يقول فيه معلما لنا: " فَإنْ خَتَمْتَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ، وَقَضَيْتَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَبَعْدَ أَنْ يَجْتَاحَ عَدُوَّكَ بِالْقَتْلِ، وَبَعْدَ أنْ يَجْهَدَ بِهِمُ الاسْرُ، وَبَعْدَ أن تَأمَنَ أطرَافُ المُسْلِمِينَ، وَبَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ عَدُوُّكَ مُدْبِرِينَ".
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 1354 مرة