فكر المجاهد وروحيته (6): الثبات في الزحف والتزود بخير الزاد
فكر المجاهد وروحيته (6): الثبات في الزحف، والتزود بخير الزاد
ثالث عشر: يثبت في الزحف
(وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الأنفال16
يعتبر المجاهد الفرار من الزحف وتخلية الموقع الجهادي أمرا فظيعا وحدثا مستنكرا، إنه بحسب القرآن جريمة لا تضاهَى، ومعصية خطيرة، ومن أقبح الأعمال عند الله، وموبقة كبيرة من الكبائر الموجبة لغضب الله والخلود في العذاب الأليم، وهو فضيحة عند أولي النخوة والأحرار من جميع الملل والأجيال.
في معركة من معارك الإمام الهادي يحيى بن الحسين فرّ أصحابه إثر هجوم كاسح من أعدائهم، فثبت هو كالجبل الراسي وحيدا يقاتلهم بمفرده، فلما رآه أصحابه عادوا وقاتلوا فانتصروا على عدوهم، وكان ثباته سببا في انتصارهم ونجاتهم من القتل[1]، وكان الإمام يدرك جيدا أنه لو ترك موقعه وفرّ كما فعل أصحابه للحِق بهم العدو وقتلوهم وأثخنوا فيهم قتلا، وهزموهم شر هزيمة، ولربما طووا بساط الإسلام ومشروعه الكبير بسبب هلعٍ بسيط، وخطإ في بعض التقدير.
إن فرار مجاهدٍ واحد قد يؤدي إلى فتح ثغرة لا تنتهي إلا بهزيمة جيش المسلمين، ويؤدي ذلك إلى انهيار المسلمين وهزيمتهم وخسارة مواقفهم والتسبب في الهزيمة النهائية؛ لذا لا غرابة أن فظّع الله أمر الفرار من الزحف وجعله معصية كبيرة؛ ولهذا نرى المجاهدين العظماء يثبتون في مواقعهم ولا يخرجون منها إلا شهداء أو منتصرين.
ويلحق بذلك كل ما يمكن أن يؤدي إلى الإخلال بموازين القوة العسكرية لجيش المسلمين على الأرض من البوح بأسرارهم أو الاستجابة للضغوط الإعلامية والنفسية التي يمارسها العدو لقتل المعنويات العالية لدى المجاهدين من خلال الشائعات والإعلام، في هذه الحالة يظل المجاهد الحق صندوقا حريزا وحصنا منيعا لأسرار المسلمين وخططهم حتى لو وقع في الأسر؛ وأجهدوا به الضرر؛ لأنه يدرك أن كلما يناله من ضرر أو أذى في سبيل الحفاظ على هذه الأسرار فإنه مهما بلغ من السوء فسيكون أقل بكثير من سخط الله، وخسارة رضوانه تعالى، والله يمد الصابرين الذين وقعوا ضحية البلاء بصبر عظيم وتحمُّل كبير، يقتدرون به على اجتياز هذه المحنة الطارئة، وما عليه إلا الصبر.
رابع عشر: يتزود بخير الزاد
التقوى هي الزاد القلبي الذي يعطي المجاهد دافعا إلى التحرك المنضبط بضوابط الشرع، وهي الذخيرة الإيمانية التي تحافظ على نقاوته ونظافة حركته، إنها الخشية والخوف من الله، وهي الرجاء والأمل فيه، وهي الجهاز الرقابي المحاسبي في المؤمن الذي يسعى به نحو الطاعة وينأى به عن المعصية، وهي المعين الذي يزود صاحبه بالدافعية للانطلاق، والحماية للأعمال، والكبح للتجاوزات، تعين المخطئ حتى يقوم من خطئه، وتبصِّره بدائه، وتسد نقصه، وتعالج جرحه، وتقوِّم كبوته، وتصحِّح هفوته، (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) الأعراف201.
يعطي القرآن للتقوى مساحة واسعة في حركة المؤمن الملتزم، ولا يكاد يخلو أمر بواجب، ولا نهي عن معصية إلا وهو مقرون بالتقوى، وفي الجهاد لا يمكن أن يكون المجاهد بغير تقوى، ولا يمكن أن يحرز التقوى مَنْ تخلّى عن الجهاد، فالجهاد جزء من أجزاء التقوى، وثمرة من ثمارها، وهي سبب في وجود المجاهد على أرض الجهاد.
يقول الإمام علي عليه السلام: "إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصب والتعب، واستقربوا الأجل فبادروا بالعمل، وكذّبوا الأمل فلاحظوا الأجل"، إنها الخشية من الله عز وجل، وحالة الانكسار والخشوع التي يجب أن يعيشها المجاهد أمام الله سبحانه ليتزود منها القوة الدافعة إلى الخير، والمانعة من الشر، ليستفيد منها المؤمن حالة التوازن والاستمساك بالفطرة التي فطره الله عليها.
إنها معين يجب أن يتزود منه المجاهد في كل مواقفه الجهادية، (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) البقرة197، وما أشد حاجة المجاهد وهو يغالب نوازع الاشرار ويعارك وحشيتهم أن يكون على قسط كبير من التقوى، ما أعظم حاجته إليها حيث تكثر معاناته وآلامه ومضائق مسالكه، والتقوى هي النجاة من جميع الهلكات، ولا هلكة أخطر من الوقوع في سخط الله، (وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) النمل53، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً) الطلاق2.
حين تتمكن التقوى من فكر وسلوك وقلب المجاهد، فلوا اجتمعت عليه جيوش النفس الأمارة بالسوء، ورهج ملذات الدنيا، وجحافل الشيطان، وأرادت أن تقتحم حصن تقواه الحصين، فلن تستطيع إلى ذلك سبيلاً، فمن تمكّنت التقوى من قلبه، واستحكمت في جوارحه، وخالطت عقله ونفسه، مخالطة المتسلِّط القوي، فإنها ستذهب به إلى اقتفاء الصراط السوي، وتدعوه نحو المنهج الواضح الرضي.
هناك من يتصور أن التقوى هي حالة التشكك والتردد التي تعتري بعض المتظاهرين بالدين أمام أعداء الله، وهو مفهوم خاطئ للتقوى، يجب أن يبرأ منه المجاهد، فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، ومواقف الجهاد لا تحتمل تردُّد المرضى، ولا تلكؤ المتشككين، إن التقوى تقتضي من المؤمن أن يكون على بصيرة من أمره، ويقين من دينه وموقفه، ثم أن يكون على قوة في تنفيذه وفي حركته الجهادية، فمن يتردَّد في التحرك المطلوب يناقض التقوى، ولا يعرف أحكام الهدى، ألم يكن الإمام علي عليه السلام قويا في مواقفه الجهادية، وهو في المحل الأعلى من التقوى؛ إن الله حين كلف بعض عباده السابقين أمرهم أن يأخذوا ذلك التكليف بقوة، والجهاد موقف قوي يحتاج لإظهار القوة وممارستها، إن الآية: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة63، تأمر بني إسرائيل أن يأخذوا وحي الله وهديه بقوة لعلهم يظفرون بالتقوى، الآية صورت التقوى باعتبارها ثمرة أو غاية من ثمار أو غايات التحرك الجاد والقوي في سبيل الله.
ومع ذلك فالتقوى هي التي تكبح جماح الغاضبين، والمنفعلين سلبا في ساحات الجهاد، فهناك من الأعداء من قد يستفزك ويمارس عليك وعلى أصحابك أخطاء قد تطيش معها عقول من لم تتمكَّن التقوى من قلوبهم، وهنا يأتي دور التقوى لتحفظ تحركهم الجهادي في إطار التحرك المراد والمطلوب والمنضبط وضمن المقاييس الإلهية التي ارتضاها الله عز وجل.
[1] سيرة الإمام الهادي.
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 1149 مرة