نص المحاضرة الرمضانية العاشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ
أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.
اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
في هذه المحاضرة نتحدث على ضوء سورةٍ من السور القرآنية المباركة، من المفصل، مما يُعرف بحسب التسميات والإصطلاحات بقصار السور، وهذه السورة المباركة فيها معيارٌ مهمٌ وأساسيٌ للربح والخسارة، وهي مقياسٌ للإنسان نفسه؛ ليعرف هل هو رابح أم خاسر؟
يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم:
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
هذه السورة المباركة تقدِّم وباختصار ومقاربة للإنسان المقياس ليعرف مبكِّراً هنا في الدنيا، وهو في حالةٍ لديه الفرصة الكافية لتلافي خسارته، وللسعي لتحقيق الربح والفوز، تقدِّم المقياس الذي يفيدك، ويساعدك على تقييم وضعك بشكلٍ صحيح، وهذه من رحمة الله -سبحانه وتعالى-.
تبتدئ السورة المباركة ما بعد البسملة بقسم، والمقسِم هو الله -سبحانه وتعالى-، وهذا يلفت نظرنا إلى أهمية هذا الموضوع الذي يقسِم الله -سبحانه وتعالى- عليه، هذه حقائق مهمة جدًّا، مهمة للغاية، عندما يكون الله -جلَّ شأنه- بعظمته وكبريائه وقدسيته وقوله الحق، ثم يقسم لنا على موضوع معين، فهذا يلفت نظرنا إلى أهمية ذلك الموضوع، وأحياناً إلى الخطورة الرهيبة جدًّا للموضوع، فالله -سبحانه وتعالى- بهذا القسم وهو يقسم في القرآن الكريم بآياته، بما هو من آياته الدالة عليه، والتي تحمل الدلائل الكافية على الموضوع أيضاً المقسَم عليه.
أمَّا المقسَم عليه فما هو؟ المقسَم عليه هو: الخسارة الحتمية للإنسان، يعني: لك أنت، الخسارة الحتمية لك أنت، لاحظ، الله -سبحانه وتعالى- يقسم لك أنك {لَفِي خُسْرٍ}، وأنَّ خسارتك حتمية، وأنك بت أصلاً في هذه الخسارة التي مبتداها في الدنيا، ومنتهاها الرهيب جدًّا في الآخرة، هذا أمرٌ يفترض أن يكون مزعجاً للإنسان، وأن يلفت نظره بجدية إلى الموضوع باهتمامٍ كبير.
لاحظوا في واقع حياة الناس كم تكون للخسائر الجزئية في مختلف أمورهم، وفي مختلف شؤونهم من تأثير سلبي على الإنسان في نفسه، في حياته، كم تمثِّل إزعاجاً له إلى حدٍ كبير، التاجر الذي يخسر صفقته، أو يخسر حتى ماله، رأس المال والربح مثلاً، كيف سيكون ندمه، حزنه، امتعاضه، ألمه، البعض يصاب بجلطة، البعض يصاب بالجنون على صدمة في هذه الحياة يخسر فيها شيئاً عزيزاً عليه، يخسر قريبه، أو يخسر ماله، أو يخسر شيئاً مهماً لديه، أو يخسر منصبه، أو يخسر وظيفته، أو يخسر… الخسارة في واقع الحياة يعيشها الإنسان تجربةً واقعية، ويتفاعل معها، ويتأثر بها إلى حدٍ كبير، لكل إنسان تجربته في هذه الحياة، أن يخسر أشياء معينة عزيزةً عليه، أو مهمةً له فيشعر بالحزن والأسى والندم، وكلما كبرت الخسارة؛ كان الندم أكبر، وكانت الحسرة أكبر، وكان الحزن أشد، يعني: هناك فرق مثلاً بين أن تخسر الربح فقط الزائد، وبين أن تخسر أيضاً رأس المال بكله، بين أن تخسر شيئاً محدوداً، أو أن تخسر أحياناً مثلاً منزلك ومالك، أو كل ممتلكاتك، كلما عز الشيء عليك، وكلما كان مهماً لديك؛ كلما كانت الحسرة والندامة والألم أشد.
وطبعاً نعرف جميعاً أنَّ للخسارة أسبابا وللربح أسبابا، وهذا ما يحصل هنا أيضاً، هذه الخسارة الحتمية التي يقسم الله -سبحانه وتعالى- عليها بالنسبة للإنسان، هي خسارة رهيبة جدًّا، هي الخسارة الحقيقية، هي الخسارة الكبرى، تبدأ من هنا، حيث تكون أنت في حياتك هذه في حالةٍ من الخسارة الرهيبة، لماذا؟ قد تكون في هذه الحياة تخسر جهدك، تخسر شبابك، تخسر عملك، تخسر سعيك، جهدك هذا الذي تبذله في هذه الحياة؛ لأنك في نهاية المطاف إنما تكسب منه الوزر، مقياس الخسارة هذه التي نتحدث عنها وهو مقياس لأي خسارة في الدنيا، هي تقاس بما يفوت الإنسان، أو بما يقع فيه، بما يفوته وبما يقع فيه، ففي هذه الخسارة التي تتحدث عنها السورة المباركة ما يفوتك في هذه الخسارة هو أمرٌ عظيمٌ جدًّا، يفوتك ما وعد الله به -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين المفلحين في الدنيا، يفوتك الحياة الطيبة، يفوتك العزة الحقيقية والكرامة الحقيقية، تفوتك الرعاية الإلهية الخاصة بعباد الله المؤمنين، يفوتك ما يتحقق من مكاسب لعباد الله المؤمنين المفلحين على مستوى إنسانيتهم وواقعهم النفسي والحياتي، ويفوتك الجنة، تفوتك الجنة بكل ما فيها، يفوتك رضوان الله -سبحانه وتعالى-، وتفوتك الجنة ذلك النعيم العظيم الأبدي، الجنة بكل ما فيها من تفاصيل من النعيم العظيم، حياة سعيدة للأبد، ما في الجنة من نعيم مادي بكل أنواعه، على مستوى الإنسان في نفسه، يعيش سليماً، معافاً، صحيحاً، لا يهرم، ولا يحزن، ولا يضجر، ولا يموت، ولا يغتم، ولا يصاب بأي أمراض، وعلى مستوى ما يتحقق له من رفاهية في المعيشة في الجنة، من قصورها، من بساتينها، من فواكهها، من ثمارها، من الطعام، من الشراب، العيش في ذلك العالم الذي كله عالمٌ عجيب، وحياة عجيبة جدًّا وسعيدة للغاية، الجنة عالم ليس مليئاً بالصحاري، كله أشجار، وكله بساتين، وكله جنان، والأنهار تجري فيها، النعيم العجيب الواسع جدًّا في كل أصنافه: من الملابس… من كل وسائل المعيشة والحياة والرفاهية، كل ذلك يفوتك، ليس يفوتك فحسب، بل وتقع في نفس الوقت في خسارةٍ رهيبة، في شقاءٍ أبدي، في عذابٍ دائم، تخسر نفسك، تخسر أهلك، تخسر كل شيء، تعيش معذَّباً في كل شيء، طعامك عذاب، شرابك عذاب، ملابسك عذاب، كل لحظات حياتك تلك الدائمة الأبدية كلها عذاب، فإذا قسنا هذه الخسارة بما يفوت، وهو من الدنيا إلى الآخرة رعاية من الله، ورضا الله -سبحانه وتعالى-، وما وعد الله به، ثم الجنة، وما يحصل للإنسان في هذه الدنيا وهو يعيش معرَّضاً لعقوبات الله -سبحانه وتعالى- في هذه الحياة بأشكال كثيرة، وفي الآخرة النار والعياذ بالله، في ذلك الشقاء، وذلك العذاب، وذلك الخسران، وذلك الكرب، وذلك الغم، وذلك الضيق، وذلك الضجر، وذلك التعب، وذلك النصب، وذلك الألم الذي لا نهاية له، أمر رهيب جدًّا، وخسارة هائلة للغاية، شيءٌ بسيط- كما ذكرنا في بداية الحديث- يجعل الإنسان يتحسر، ويألم، ويحزن، ويغتم، والبعض حتى يصاب بجلطة، فهذه الخسارة رهيبة جدًّا، وهي مؤكدة، وهي لكل إنسانٍ ما عدا من يدخل في هذا الاستثناء الذي هو استثناء حصري، ولأن المسألة عامة جاءت المعادلة الأساسية الخسارة في واقع الإنسان {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، وأتت مسألة النجاة من هذه الخسارة هي الحالة الاستثنائية، وهذا أمر مخيف ورهيب؛ لأنه يعني أنَّ أكثر الناس سيخسرون هذه الخسارة الهائلة التي تقاس- كما قلنا- بحجم ما يفوت، وبحجم ما يتورَّط فيه الإنسان ويقع فيه الإنسان.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، هذا الإستثناء- كما قلنا- يفيد أنَّ أكثر الناس هم من الخاسرين، هذه الخسارة الرهيبة جدًّا المؤكدة الحتمية التي أقسم الله عليها، قد تكون أنت واحداً منهم، قد تكون أنت بغفلتك، وعدم التفاتك إلى هذا المقياس، وعدم تحققك من أنَّ هذا المقياس وهذا المعيار يتوفر في واقعك أنت، فقد تكون من هؤلاء الخاسرين، قد تكون أنت هذا الإنسان الخاسر.
عندما نتأمل في هذا الاستثناء القرآني، فهو يؤكِّد لنا أنه لا نجاة من هذه الخسارة إلَّا وفق هذه الطريقة التي رسمها الله -سبحانه وتعالى-، فهو استثناءٌ حصريٌ، يعني: يحصر لنا هذه الطريق للنجاة من هذه الخسارة الحتمية، يعني: ليس هناك أي طريق آخر، ومجموع هذه العناصر المهمة والأساسية للنجاة: الإيمان، العمل الصالح، التواصي بالحق، التواصي بالصبر، متلازمة، هذه العناصر الأربعة هي متلازمة، مجموعها وبكلها ومن دون أي تجزئة ولا تفريق لا بدَّ منه لكي تنجو من هذه الخسارة، لو أراد الإنسان أن يجزئ، ويقول: [أنا لا أريد مجموع هذه العناصر الأربعة، وإنما سأكتفي بواحدٍ منها]، فهو لا يستطيع، لا يمكن ذلك، لا يتأتى ذلك، لا يتحقق ذلك، لا بدَّ من المجموع وهي مترابطة، هي فيما بينها مترابطة، فهذا الاستثناء الحصري يؤكد لنا أنَّ علينا أن نتجه هذا الاتجاه، وفق هذه الطريقة، وألَّا نمني أنفسنا بأشياء أخرى، أو آمال أخرى، أو أماني أخرى للنجاة من هذه الخسارة الرهيبة.
ولاحظوا هذا أمر رهيب وأمر مخيب: موضوع الخسارة الحتمية للإنسان، الله -سبحانه وتعالى- هو ربنا الرحيم العظيم الكريم، وهو يريد للإنسان النجاة والفوز والفلاح والخير، وهو يريد للإنسان السعادة، ويدعو الإنسان إلى ما يحقق له ذلك؛ لأن الإنسان في هذه الحياة في موقع المسؤولية والاختبار عليه التزامات عملية، وأمورها كلها ترتبط بأعمال يفعلها، بمواقف، بطريق يتحرك فيها، جانب عملي، فالله يريد لنا الخير، وينعم علينا بالنعم العظيمة، ويخوِّلنا ما يساعدنا على تحقيق هذه النتائج الكبيرة، بل إنه -سبحانه وتعالى- يدخل معنا في صفقات عظيمة جدًّا، يقول لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف: الآية10]، هو يقدِّم عروضاً مغريةً جدًّا، ومربحةً جدًّا، ويترتب عليها النتائج العظيمة جدًّا، تحقق لنا الخير في الدنيا والآخرة، يتحقق لنا بها النتائج والأرباح والمكاسب العظيمة والمهمة، المهمة لنا في حياتنا، المهمة بكل اعتبار، يعدنا بالنصر، يعدنا بالعزة، يعدنا بالكرامة، إن استجبنا له إلى ما أرشدنا إليه بما يحقق لنا هذه الأشياء، وهذه أشياء نحتاجها في هذه الحياة لكي نكون أعزاء؛ حتى لا نظلم، حتى لا نقهر، حتى لا نذل، حتى لا نستعبد، حتى لا نضطهد، يعدنا -جلَّ شأنه- بما يحقق لنا في هذه الحياة الخير، والسعادة، والحياة الطيبة، إن نحن استجبنا له؛ لأنه يرشدنا إلى أشياء عملية، التزامات عملية، يرشدنا إلى ما نعمل، وينبهنا ويحذرنا مما ينبغي أن نتركه وأن نحذر منه، فهذه العروض من الله هي عروض للربح، للفوز، للفلاح، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، لما يقينا من كثيرٍ من الشرور، لما يدفع عنا الكثير من الأخطار، لما يحقق لنا الفوز العظيم الذي منتهاه رضا الله والجنة، فوزٌ عظيم بكل ما تعنيه الكلمة، حياة سعيدة للأبد، حياة يعيش فيها الإنسان في أرقى نعيم.
هذه العروض يقدمها الله -سبحانه وتعالى-، لكن المشكلة تكون عند الإنسان عندما لا يقبل، لا يقبل وقد عُرض عليه ما فيه فوزه، ما فيه فلاحه، تعرض عليه التجارة الرابحة المضمونة الربح، عندما يقول: {هَلْ أَدُلُّكُمْ}، الله -جلَّ شأنه- يخاطبنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، مكاسبها عظيمة ومؤكدة وهائلة، أولها: النجاة من عذاب الله، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}[الصف: 11-12].
لو يعرض على الإنسان في هذه الحياة عمل معين في مقابل أن يحصل على منزل، أن يحصل على بساتين ومزارع، أن يحصل على متطلبات حياته، أن يحصل على عروض مغرية، ماذا يفعل الكثير من الناس؟ يتجه في أي موقف باطل في مقابل شيء بسيط يحصل عليه، وقد يخسره، فهذه الخسارة الرهيبة جدًّا لا نجاة منها إلَّا بهذا الطريق، وفق هذه الطريق التي رسمها الله -سبحانه وتعالى-.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، الإيمان بمفهومه القرآني، الإيمان الذي يبعث على العمل، الإيمان الذي فيه خوفٌ من الله -سبحانه وتعالى-، تخاف من عذاب الله فوق كل شيء، تخشى الله فوق خشيتك من الناس، خوفٌ من عذاب الله يحررك من كل مخاوفك الأخرى التي قد تقعدك عن العمل في سبيل الله، وعن العمل فيما هو طاعةٌ لله، التي قد تقعدك عن موقف الحق، خوف من عذاب الله يرتقي بك ويمثِّل دافعاً لك فيزيح من أمامك كل تلك العوائق التي تتمثل في الخوف من أشياء أخرى: خوف من الناس، خوف على مصالح معينة من الناس، مخاوف مما بأيدي الناس، إيمانٌ فيه حبٌ لله -سبحانه وتعالى-، حبٌ لله يصل في مستواه فوق محبتك لأي شيءٍ آخر، فتحب الله أكثر وأعظم وأكبر من محبتك لأي شيءٍ آخر في هذه الحياة، يحررك من ضغط ما تحبه؛ حتى لا تؤثره على طاعة الله -سبحانه وتعالى-، على ما فيه رضى الله -سبحانه وتعالى-، إيمانٌ ترجو فيه الله -سبحانه وتعالى-، فيه رجاء، ترجو الله -جلَّ شأنه-، ترغب فيما وعد به، تطمع فيما عنده من الخير والفضل، إيمانٌ تثق فيه بالله، إيمانٌ تبتني عليه الثقة بالله -سبحانه وتعالى-، تثق به، تثق بهديه، تثق بكلامه، تثق بوعده، تثق بوعيده، إيمانٌ بالله، وإيمانٌ بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، هذا الإيمان الذي يبعثك على العمل، يدفعك إلى العمل، لا يمكن أن يكون هناك إيمانٌ صادقٌ، وإيمانٌ وفق المفهوم القرآني وهو إيمان يجمدك، يجعلك متخاذلاً مهملاً، لا تمتلك الدافع للعمل، متكاسلاً، أو في حالة تكون فيها مكبلاً عن كثير من الأعمال؛ لأنك تخاف الناس أكثر مما تخشى عذاب الله، أو لديك حسابات في هذه الحياة من منطلقات أخرى، بسبب محافظتك على ما تحب في مقابل أن تخسر رضى الله ومحبة الله -سبحانه وتعالى-، أو في أطماعك وآمالك التي اتجهت بك بعيداً عمَّا عند الله من الخير العظيم والفضل العظيم والفضل الواسع.
وهكذا إذا كنت تعيش أزمة الثقة بالله -سبحانه وتعالى-: الثقة بكلامه، الثقة بوعده، الثقة بوعيده، حالة رهيبة جدًّا، الإيمان الذي ليس بهذا المفهوم القرآني لا يجدي شيئاً، الإيمان الذي هو موجود عند الكثير من الناس، وسيخسرون معه؛ لأنه إيمان لم يترتب عليه ما ذكرناه من: خشية من عذاب الله فوق كل خشية، من محبةٍ لله فوق كل شيء، تمثل دافعاً يرتقي بك فتتجاوز كل تلك الأشياء التي تمثَّل عوائق أمامك في هذا الطريق، إيمانٌ يعيشه الكثير فيه أزمة الثقة بالله، أزمة الثقة بوعده، أزمة اليقين بوعيده، وهو لا يجدي، ولا ينجي من هذه الخسارة، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، العمل الصالح لا بدَّ منه، نتيجة الإيمان الصادق والإيمان بمفهومه الصحيح هي العمل الصالح، لا بدَّ من أن تمتلك من خلال الإيمان الدافع الكبير للعمل والعمل الصالح بالتحديد، كيف يكون عملك صالحاً، عندما أولاً يتوافق مع ما شرعه الله -سبحانه وتعالى-، يكون وفقاً لتوجيهات الله وتعليمات الله، فالعمل الذي فيه مخالفة لتوجيهات الله لا يعتبر عملاً صالحاً، يعتبر عملاً فاسداً، العمل أيضاً الذي تشوبه مخالفات لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى-، تحوّله من عمل صالح إلى عمل فاسد، تفسد عملك الصالح، عندما تشوب العمل الصالح بظلم، أو بفساد، أو بخيانة، أو بخلل لا يتطابق مع ما شرعه الله -سبحانه وتعالى-، في هذه الحالة لا ينطبق عليه بأنه عمل صالح، العمل الصالح له ثلاثة عناصر أساسية:
موافقة ما شرعه الله -سبحانه وتعالى-، يتطابق مع التوجيهات الإلهية لا يخالفها، وليس فيه اختلال عنها، ثم الإتقان في العمل، الإتقان في العمل هو من صلاحه، الإنسان إذا كان يعمل العمل كيف ما كان، على حسب التعبير المحلي [مغضى]، ليس عملاً متقناً، لا يتحرك فيه بجد، ويحاول أن يتقن عمله، فقد ينقص، ينقص من صفة الصلاح، لا يصلح، يتخرب حتى كثيرٌ من أعمال الناس، تتخرب؛ لأنها غير متقنة، الإتقان في العمل مطلوب، “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”، حتى في أعمالنا التي ترتبط بشؤون حياتنا المعيشية، ونحن في واقعنا الإيماني نربط كل شؤون حياتنا بالدين؛ لأن الدين هو نظام للحياة، تعليمات للحياة، توجيهات لإصلاح هذه الحياة، ولو بقيت هذه النظرة إلى الدين قائمة في أوساط المسلمين لكانوا هم أرقى الأمم، ولكانوا هم اليوم من يتصدرون الحضارة البشرية في كل الدنيا، ولكن هبطوا لما أضاعوا فهمهم للدين أنه تعليمات لصلاح هذه الحياة، ولنظم هذه الحياة، وللارتقاء بالإنسان في هذه الحياة، ولحل مشاكل هذه الحياة، وأفلسوا وانطلقوا من اعتبارات ومفاهيم أخرى ناقصة وقاصرة، فكانت النتيجة هي الخسارة، خسارة في كل شيء.
لاحظوا علاقة هذا المفهوم: العمل الصالح بالنجاح أو الخسارة، العمل غير المتقن كم يخسر الإنسان من أشياء كثيرة؛ لأنه لم يعملها بإتقان، فيفشل ويخسر، أما بمفهوم طبعاً هنا العمل الصالح يدخل فيه بشكل رئيسي الأعمال التي نحظى من خلالها برضوان الله -سبحانه وتعالى-، وإذا صححنا منطلقاتنا في هذه الحياة يتحول كل عمل نعمله، حتى في أعمالنا المعيشية.
لاحظوا على المستوى الاقتصادي، لو نشتغل على المستوى الاقتصادي بدافعين إيمانيين: أن نكسب الحلال ونعيش بالحلال، وأن نمتلك القوة التي تساعدنا في مواجهة أعدائنا، وفي الحفاظ على أنفسنا كأمة مؤمنة مستقلة، من باب: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، لتحول كل جهد نبذله في هذه الدنيا حتى في مزرعتك، وحتى في متجرك، وحتى في مصنعك، وحتى في كل ميدان من الميادين تتحرك فيه، وتلتزم بالضوابط والتوجيهات الإلهية، تعليمات الله، توجيهات الله: لا تغش، لا تخدع… لا تمارس أي شيءٍ من المحرمات؛ لتحول كل جهد إلى جهد صالح، وعمل صالح، يمثّل قربةً إلى الله -سبحانه وتعالى-.
ولكن لما تنطلق في واقعك المعيشي: في تجارتك، أو في مزرعتك، فقط بالدافع الغريزي المعيشي والطمع، وغابت عن بالك وعن منطلقاتك ودوافعك، لاحظوا أهمية الإيمان حتى في الدوافع، أهمية الإيمان حتى في المنطلقات، الإيمان يجعل دوافعك إيمانية، منطلقاتك في هذه الحياة إيمانية، حتى إلى السوق، والمتجر، والمصنع، والمزرعة، والعمل الذي تشتغل فيه كعامل، وبالتالي نتعلم فيه هذه القيمة من القيم، التي هي: الإتقان في أعمالنا، نحرص أن تكون كل الأعمال أعمال متقنة، وليس أعمال عشوائية وأعمال ملفقة، شيء عجيب جدًّا في واقع المسلمين، زادت عندهم هذه منهجية التلفيق في الأعمال: أي عمل يعملونه، حتى في الجهاد في سبيل الله، كثيرٌ من مجالات العمل يتحرك فيها البعض بتلفيق تلفيق، عمل ملفق، وليس بتركيز على الإتقان.
وعندما نأتي إلى مجال العمل في سبيل الله، كم فيه من أعمال ذات طابع مادي، يعني مثلاً: تشتغل في أي مجال: في التصنيع، تشتغل في أعمال في الإنشاءات… تشتغل في أي مجال من مجالات العمل، أعمال هندسية، أو أعمال فيها ما يحتاج إلى أن تركز على الإتقان، وليس التلفيق والعشوائية، عندما نأتي الآن إلى كل مجال من مجالات الحياة: أنت تعمل في البناء، عليك أن تتقن عملك، أن تحذر من التلفيق، أن تشتغل وفق الطريقة الصحيحة الهندسية، التي تجعل من هذا البناء بناءً محكماً ومتقناً، ومصمماً تصميماً صحيحاً، وبطريقة صحيحة، أنت تشتغل في مجال الهندسة، أو الكهرباء… أو في أي مجال من المجالات، الإتقان يجب أن يعود كثقافة عامة في أدائنا العملي في كل ما نعمله، مع ملاحظة المطابقة مع المشروع، أن نركز على الإتقان، إذا عاد الإتقان هذا كثقافة عامة، وفهمنا أنه، مقصودٌ في الدين والتعليمات الدينية، وأن الله يحب منا ذلك، (إن الله) كما في الحديث النبوي الشريف (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، هذا سيحقق لنا نجاحات كبيرة في حياتنا، وفوائد كبيرة في حياتنا، للأسف الشديد تدنى واقع المسلمين في هذا الجانب: في إتقان الأعمال إلى حد رهيب جدًّا، وتفوقت عليهم أمم أخرى لا تمتلك هذا المفهوم كمفهوم ديني في ثقافتها؛ وإنما هم بدافع النجاح، بدافع الحرص على تحقيق المكاسب الكبيرة يدركون هذه القيمة كقيمة عملية، العمل له قيم، ويدركون أن هذه القيم تضمن النجاح في العمل، ويكفي هذا عندهم في أن يهتموا به على مستوى كبير، وأن يُجِدّوا فيه إلى مستوى كبير، ونحن المسلمين من لدينا هذه القيم كقيم دينية أيضاً، وهي قيم عملية تضمن النجاح، نفرط فيها؛ ثم تسود حالة التلفيق وحالة العشوائية في الكثير من أعمالنا، وتطغى على كل واقع حياتنا إلى نحوٍ عجيب.
عندما تأتي إلى موضوع- أشرنا عنه في الدروس في العام الماضي- وهو موضوع التخطيط الحضري، كيف ينتشر الناس في المناطق في عملية العمران والبناء بطريقة غير مخططة، ولا متقنة، ولا منظمة، ولها مشاكل مستقبلية كثيرة، كيف يشتغلون في كثيرٍ من البناء، ويحصلون على الرخص، وأحياناً من الجانب الرسمي والحكومي، بمجرد دفع الرسوم على الرخصة، المطلوب لدى الموظف والمسؤول هو الحصول على الرسوم التي سيأخذها مقابل الترخيص، وليس التدقيق في العمل نفسه: هل هو وفقاً للمواصفات الصحيحة، ومتقن…الخ. أم لا؟ غابت ثقافة الإتقان عن الأعمال، وأصبحت الحالة حالة عشوائية وحالة تلفيق في كثيرٍ من الأعمال، وهذا أثَّر على واقع حياتنا كمسلمين، وكما قلت تفوقت علينا أمم أخرى تطلع منتجاتها متقنة، أعمالها متقنة، حتى ترتيباتها العملية متقنة وهي تستهدفنا كمسلمين، تحرص على أن تكون دقيقة في أعمالها، ومتقنة في أعمالها، وتشتغل وفق خطط معينة، وتشتغل لتنفيذها بدقة.
فتركيزنا في عملنا الصالح على الإتقان، على الدقة، على الإحكام، مطلوبٌ منَّا، وينطبق مع نفس المفهوم، وأن يكون سليماً هذا العمل من المفسدات، لا تشوبه شوائب على المستوى الأخلاقي والسلوكي تفسده، ولا تشوبه في نفسه (العمل) شوائب تفسده، قد تعمل عملاً معيناً، لكنك لا تتقنه، وتشوبه شوائب تفسد هذا العمل عليك، وقد تتحرك في أعمال مهمة على المستوى الأمني، أو على المستوى العسكري… أو على أي مستوى في هذه الحياة، أو في الجانب الاقتصادي، ولكنك تقرن عملك هذا بأعمال أخرى تفسد عليك هذا العمل، إما تفسده بشكلٍ مباشر فلا تنجح فيه نفسه، لا يتحقق منه الهدف نفسه، تريد أن تحقق الأمن، لا يتحقق الأمن، بل تثير مشاكل إضافية، أو تريد أن تحقق النصر، لا تحقق النصر، عمل فاشل يترتب عليه إخفاق عسكري، أو على المستوى الاقتصادي تريد أن تحقق نتيجة معينة، يتحقق العكس من ذلك، أو تعمل عملاً آخر لو لم يتجه مباشرة إلى نفس العمل، لكنه أفسد عليك من جانبٍ آخر، التزاماتك الأخرى، انضباطك الإيماني والسلوكي والأخلاقي، فجعل ذلك العمل لا قيمة له عند الله، ولا فضل فيه، ولا أجر عليه، وتكون خسارتك كبيرة، ثم تترك تلك الأشياء الأخرى تأثيراتها السلبية فيما يصل- في نهاية المطاف- حتى إلى ذلك المجال، فلا بدًّ من العمل الصالح، لابد من العمل الصالح، وهو ثمرة الإيمان الصادق، والإيمان بمفهومه القرآني ونتيجته المطلوبة.
يمكن أن نكتفي بهذا المقدار، ونكمل- إن شاء الله- ما تبقى من السورة المباركة في محاضرة الغد إن شاء الله.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 379 مرة