المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 08 رمضان 1442هـ
المحاضرة الرمضانية الثامنة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 08 رمضان 1442هـ 20-04-2021
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
اللهم اهدنا وتقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نواصل الحديث على ضوء الآيات المباركة في سورة الرحمن، وتحدَّثنا بالأمس حول بعضٍ مما ورد عن العذاب الشديد في جهنم والعياذ بالله، والتي هي خسارة رهيبة جداً لكل إنسانٍ يتورط تلك الورطة الرهيبة، فلا يشكر نعم الله في هذه الدنيا، ولا يستجيب لله، ولا يهتدي بهديه، ويتجه وفقاً لأهوائه ومزاجه الشخصي بعيداً عن تقوى الله سبحانه وتعالى، فيصل في عاقبة أمره إلى ذلك العذاب الأبدي والخسارة الرهيبة جداً: إلى نار جهنم والعياذ بالله.
الله سبحانه وتعالى ذكَّرنا بكل هذه التفاصيل ونحن في هذه الدنيا؛ لكي نحذر ولدينا الفرصة الكافية للحذر، ولأن نبني مسيرة حياتنا على أساسٍ صحيح.
الله جلَّ شأنه يقول في الآية المباركة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن: الآية46]، بعد ذلك العرض عن عذاب الله، وعن حال من يتورَّطون فيصلون إلى عذاب الله، يبين سبحانه وتعالى طريق النجاة، طريق الفوز، طريق السعادة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، طريق الفوز والنجاة والسلامة من عذاب الله، هو مجموعٌ بكله في هذه الفقرة من النص القرآني: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، فقرة جامعة، ونص جامع لكل أسباب النجاة، وللسبب الرئيسي للنجاة والفلاح.
في كثيرٍ من السور تأتي الآيات المباركة بمواصفات إيمانية معينة، وأعمال عبادية، ولكنه هنا يقدِّم ما يبنى عليه كل ذلك وما يجمع كل ذلك، أساس النجاة هو في هذا، أساس الفلاح هو هذا، أساس الفوز هو في هذا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، من هو مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، ومؤمنٌ بأنَّ هذه الحياة الأخرى آتيةٌ لا محالة، ومؤمنٌ بموقف الحساب والجزاء في يوم القيامة؛ فهو سيخاف، سيخاف ذلك المقام العظيم: المثول بين يدي الله سبحانه وتعالى، والوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب والجزاء، هذا سيدفعه هنا في الدنيا إلى أن يستقيم وفق هدي الله سبحانه وتعالى، وهذا سيحرره من أكبر عائقٍ يؤثِّر على الكثير من الناس، ويصدهم عن الاستجابة لله سبحانه وتعالى الاستجابة الكاملة: وهو الخوف من الآخرين.
من أكبر العوائق التي تؤثِّر على الكثير من الناس، فتصدهم عن الاستجابة لله سبحانه وتعالى في فرائض مهمة، في أعمال مهمة، فيما شرعه الله وفرضه من مسؤوليات مهمة، أساسية في دين الله، أساسية لتحقيق التقوى، أساسية لتحقيق الإيمان، أساسية للنجاة والفلاح، وذات أهمية كبيرة جداً في واقعنا في هذه الحياة، نحن بحاجة إليها لصلاح حياتنا، لاستقامة حياتنا، لأن نعيش في عزةٍ، وكرامةٍ، وحريةٍ، ولأن نقيم القسط في واقع حياتنا، ولأن نحقق العدل في مسيرة حياتنا، كل تلك المسؤوليات ذات الأهمية الكبيرة في واقع الحياة، والأهمية الكبيرة في الدين، أكبر عائقٍ للكثير من الناس للنهوض بها، والاستجابة لله فيها: هو الخوف، الخوف من الآخرين، الخوف من أعداء الله، الخوف من الجبابرة الطغاة الظالمين والمستكبرين، فيؤثِّر هذا الخوف على الكثير من الناس؛ فيعطِّلون مسؤوليات مهمة: مسؤولية الجهاد في سبيل الله بمفهومه القرآني الصحيح، مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه القرآني الصحيح، مسؤولية العمل على إقامة القسط، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}[النساء: من الآية135] في هذه الحياة، وهي مسؤولية مهمة وعظيمة، ومن أهم واجباتنا كأمةٍ مسلمة، مسؤوليات مهمة: التعاون على البر والتقوى، مسؤولية الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن نكون كمؤمنين ومؤمنات بعضهم أولياء بعض، تجتمع كلمتهم في موقف الحق، يتعاونون على البر والتقوى، الأخوة الإيمانية... مسؤوليات مهمة جداً.
الدافع للكثير من الناس في التهرب من هذه المسؤوليات، والنهوض بها: هو الخوف، الخوف من الآخرين، من الجبابرة، من الطغاة، من الظالمين، الخوف إما من سجونهم، الخوف- كذلك- من القتل، الخوف من القصف، الخوف مما قد يأتي مما هو متوقعٌ من جانبهم، نسبة الخائفين من المسلمين من أمريكا وإسرائيل كم ستطلع هذه النسبة؟ وأثر هذا الخوف عليهم في تنصلهم عن مسؤوليات وواجبات صريحة في القرآن الكريم، وردت بها آيات كثيرة في القرآن الكريم، كم ستطلع؟ كم يندفع البعض إلى شطب مسؤوليات مهمة من دين الله نتيجةً لهذا الخوف، ليس هناك ثقة بالله سبحانه وتعالى، وليس هناك هذا الإيمان باليوم الآخر إلى هذه الدرجة: التي يتحرر فيها الإنسان من أسر الخوف من الآخرين، ومن ضغط الخوف من الآخرين وما هو الذي بيد الآخرين أولئك؟ هل بيدهم شيءٌ كجهنم؟ هل بيدهم شيءٌ كالعذاب في جهنم؟ هل هناك شيءٌ مما هو متوقعٌ من جانبهم يساوي لحظةً واحدة في نار جهنم، في عذابها المستعر، في حميمها، في كل أصناف العذاب فيها، في الخلود الأبدي في عذابها؟
نحن بحاجة إلى أن نرسِّخ في أنفسنا الإيمان باليوم الآخر، فهو الذي سيحررنا من كل أشكال الخوف من الآخرين؛ وبالتالي فمن يخاف مقام ربه: هو سيتحرك بكل جدية، وبدون اكتراثٍ بالأعداء، للقيام بمسؤولياته وواجباته، ينطلق في ميادين الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى بكل عزة، بكل حرية، بكل كرامة، بكل إباء، واثقاً بالله سبحانه وتعالى، متوكلاً عليه، متحرراً من الخوف من الآخرين، ينطلق في النهوض بالمسؤوليات الأخرى كذلك في السعي مع إخوته المؤمنين والمؤمنات لإقامة القسط، لإقامة العدل، للاجتماع على كلمة الحق، للاعتصام بحبل الله جميعاً... وهكذا للتعاون على البر والتقوى، بدون اكتراث بأعداء الله وما بأيديهم.
من يخاف مقام ربه: هو الذي سيتمكن من تحقيق الاستجابة الكاملة في التزاماته الإيمانية والدينية، ولن يأتي إلى الكثير منها ليشطب عليها، ويتنصل عنها، ويتهرَّب منها؛ لأنه متحرر من هذا الضغط الذي يؤثِّر على الآخرين فيركعهم، ويجعلهم يتجهون بدلاً من الاستجابة لله، إلى شطب الكثير من المسؤوليات والأعمال العظيمة والمهمة جداً.
من يخاف مقام ربه: هو أيضاً من سيسيطر على أهوائه ورغباته، التي قد تؤثِّر عليه تجاه بعضٍ من المسؤوليات، والأمور، والالتزامات المهمة، ومن يخاف مقام ربه: هو الذي سيسيطر على أعصابه في حالات الغضب والانفعال، التي تؤثِّر على الكثير من الناس فلا يتقون الله، فيعملون ما يسبب لهم سخط الله سبحانه وتعالى، وهم يعيشون في تلك الحالات: حالات الغضب والانفعال.
فهي تشكِّل ضمانة لاستقامة الإنسان، واستجابته المتكاملة لله سبحانه وتعالى، وتحقيق التقوى: أن يخاف مقام ربه، هذا يفيده أمام المخاوف، أمام الأهواء والرغبات، وأيضاً أمام حالات الانفعال والغضب، سيتمكن من خلال ذلك أن يسيطر على نفسه، سيتجه في مجال الأعمال ولن تؤثر عليه لا مخاوفها ولا صعوبتها، إذا وجد فيها شيئاً من الصعوبة، فهو يدرك أنَّ كل المخاطر وكل الصعوبات لا تساوي لحظةً واحدة فيما يقابلها من صعوبات ومخاوف في نار جهنم وعذاب والعياذ بالله، فيستهين بكل شيءٍ في مقابل أن يعمل بما فيه نجاته وسلامته.
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، يتحدث عما أعدَّ الله له في الآخرة، هناك عالم الجنة، عالمٌ متسعٌ جداً، الله جلَّ شأنه قال عن سعة الجنة، قال في القرآن الكريم: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: الآية133]، سعة هائلة جداً، سعة مدهشة، ومسافات ومساحات كبيرة جداً، عالمٌ في غاية الاتساع، {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، مثل عالمنا هذا في عرضها، مثل السماوات والأرض، سعة كبيرة جداً، وعالم الجنة بكله هي كاسمها جنة، لا توجد مساحات فيها مساحات مثلاً كبيرة- كما في الدنيا- هي مساحات صحراوية، أو جبال صخرية، أو أماكن ليس فيها نباتات ولا أشجار، عالم الجنة عالمٌ مختلف. مع سعتها الهائلة والمدهشة والمذهلة، هي كلها مغطاةٌ بالنباتات والأنهار، وعالمٌ كله ليس فيه ولا مساحة واحدة تقول عنها: [مساحة صحراوية، أو مساحة جافة، أو مساحة لا يمكن أن تهنأ بالنظر إليها، أو الحياة فيها]، فذلك العالم المتسع جداً جداً جداً سكَّانه قليل؛ لأن الأغلبية متجهة إلى جهنم والعياذ بالله، أغلبية البشر، هذا أمر مخيف، وأمر مؤسف، وأمر رهيب جداً، مقلق، يقلق الإنسان أن يكون من تلك الأغلبية الساحقة التي تتجه إلى جهنم، هناك الازدحام في جهنم، الكثافة السكانية في جهنم، {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}[الأعراف: من الآية18]، يقول الله سبحانه وتعالى عندما حذَّر إبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: الآية85].
أمَّا في الجنة فسعة هائلة جداً، عالمٌ في غاية الاتساع، وقلة من السكان، داخل هذا العالم العجيب المتسع، يعطي الله لكلٍّ منهم، لكلٍّ من سكان هذه الجنة، لكلٍّ من أصحاب الجنة جنات، جنات خاصة به، وهناك عالم الجنة بكله فيه الفواكه، فيه الأنهار، مثلما قال الله سبحانه وتعالى عن عالم الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}[محمد: من الآية15]، هذا وصفها العام، الوصف العام لعالم الجنة: فيها من كل الثمرات، حتى فيما هو خارج إطار جناتك، داخل هذه الجنة، داخل ذلك العالم المتسع، المنتزهات، الأماكن العامة فيها من الثمرات بمختلف أنواعها، وفيها هذه الأنهار العجيبة: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، ماء نقي لم يتغير لا طعمه، ليس فيه أي شوائب، في غاية النقاء، والنظافة، والعذوبة، ومستساغ، {غَيْرِ آسِنٍ}، لا يتغير أبداً، لا في طعمه، لا في لونه، لا في مذاقه، لا في رائحته.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}، أنهارٌ من لبن، لبن متدفق بشكل أنهار بيضاء في عالم الجنة، وأنت تتنقل، وأنت تذهب للتنزه والتجول في أنحائها، فتجد أمامك أنهار اللبن، وتشرب منها، وفي جو ليس ساخناً، ليس حاراً، تقول: [لبن حار]، لا، على أرقى مستوى في مذاقه، ولا يتغير أبداً في طعمه.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}، بشكل أنهار في عالم الجنة، {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}، حتى العسل، أنهار من العسل المتدفق.
فعندما تتجول، عندما تتنزه، عندما تتنقل في أنحائها للتفرج، والراحة، والابتهاج بمناظرها الجميلة والخلَّابة، أمامك المأكولات من ثمارها، من مختلف أثمارها، وأمامك هذه الأنهار التي فيها مختلف الأشربة... وهكذا، وغير ذلك كثير، وغير ذلك كثير، كم في القرآن الكريم؟ ولكن هناك ما يخصك أيضاً: أربع جنات، يأتي الوصف أولاً لجنتين منها، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 46-47]، نعمه سبحانه وتعالى عندما أنعم عليك في هذه الحياة الأولى، إذا شكرت الله عليها؛ تصل بك إلى نعمه العظيمة جداً في عالم الآخرة في الجنة.
{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}[الرحمن: الآية48]، هاتان الجنتان فيهما مختلف أصناف الفواكه والأشجار، كل جنةٍ منهما جنة واسعة جداً، مزرعة واسعة جداً جداً جداً، إلى درجة أنها تتسع لكل أصناف الفواكه، ولكل أصناف الأشجار، من كل فاكهة تتوفر فيها، وكل الأشجار تتوفر فيها، والأشجار فيها (أشجار الفواكه) مورقة مونقة، لم تكن على حال قد أثَّر عليها عطش، أو مناخ، أو جو، فتتساقط أوراقها وتصبح أشجاراً بدون أوراق، أو أن فيها أصناف محدودة، لا، هي في نفسها كأشجار مورقة، مزهرة، مثمرة، مونقة، خضراء، يانعة، وليست لا مهتلة الأوراق، وليست قليلةً في أصنافها من الفواكه والأشجار.
{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}، وأيضاً مرتَّبةً ترتيباً بديعاً، بجمالٍ فائق، وترتيبٍ إلهي فريد، ليست بشكل غابة، أو مزرعة مزروعة بشكلٍ عشوائي؛ إنما هي مرتَّبة بشكلٍ جماليٍ وفنيٍ بديعٍ جداً، مبهرٍ، ومنوعٍ، وبشكلٍ فنيٍ راقٍ جداً جداً، ومبهجٍ وبديع.
الآن في عالم الدنيا بعض الحدائق تحتاج إلى خبراء ومختصين لتشذيبها، وتنظيمها، وترتيبها، وترتيب نسق الزراعة فيها، وتوزيع الأشجار بشكلٍ معين، وقصها، وتنظيمها بشكلٍ معين، أمَّا ذلك الترتيب فهو ترتيبٌ من الله سبحانه وتعالى الكريم، بديع السماوات والأرض، المتقن جلَّ شأنه، أحكم الحاكمين، على أرقى مستوى في تنظيمها وتهذيبها وتوزيعها.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية49]، نعم عجيبة جداً، {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن: الآية50]، في كلٍّ من تلك الجنتين المياه متوفرة جداً، لن تحتاج إلى مضخة، في الدنيا إذا اقتنيت مزرعة، عليك أن تحل مشكلة المياه، وأنت بحاجة إلى مضخة، وقد تحتاج إلى الاشتراك مع آخرين في مضخة معينة، وتحصل على حصة من الماء، وتحتاج إلى عناء، ومتطلبات، واحتياجات... برنامج طويل عريض، أمَّا هناك فالماء متوفر ويجري، يجري على وجه تلك الجنة، ووفرته تلك، مع منظره البديع الجميل، الأشجار والفواكه المثمرة، المورقة، المونقة الجميلة، الرائعة، والمياه تجري بشكلٍ مستمرٍ ومتدفقٍ من تحتها، منظر رائع وبهيج وجميل جداً.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية51]، نعم عجيبة جداً، {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن: الآية52]، كل أصناف وأنواع الفواكه تتوفر، في كلٍ من تلك الجنتين، لا فاكهة إلا ومنها موجودٌ فيما هو موجودٌ في جنتك تلك، من كل فاكهة بلا استثناء، وأكثر من صنف، زوجان، أكثر من صنفٍ واحد، وتتوفر تلك الفواكه، وهناك متسع لها، ليست مزرعة صغيرة متضايقة، والأشجار فيها مزدحمة، لا تدخل فيها إلا بصعوبة، وتخرج بصعوبة، هناك اتساع هائل، مدهش جداً، وسعة وكثرة في هذه الأشجار، ووفرة إلى حدٍ عجيب، {مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}، ومن فواكه الجنة، من فواكه الجنة، على أرقى مستوى، في شكلها، في طعمها، في مذاقها، في رائحتها، في منظرها، جمعت بين اللذة والجمال.
{مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (53) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (54) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}[الرحمن: 53-56]، في نفس حدائق الجنة، في نفس هذه المزارع، هذه المزارع الواسعة جداً، المزرعة تكون وسيعة جداً، واسعة للغاية، ومع ذلك المنظر البهيج للأشجار، والمياه تجري، فيها أماكن للجلوس والتنعم والراحة والاستمتاع، أماكن في داخل تلك الجنات نفسها، متكئات وأماكن معدة ومهيأة للجلوس عليها، بين تلك المزارع نفسها، تجلس ولديك متكأ معد إعداد رائع جداً، حتى أن فرشه من الحرير، مالا يستخدم في هذه الدنيا إلا للملوك ولكبار الأغنياء في هذا العالم، أما هناك فأنت كملك، ومن حرير الجنة، لا يساويه أي حرير في الدنيا، فيما هو عليه من الجمال والروعة، وناعم جداً، وتجلس في تلك المتكآت، متكأ مهيأ معد، بين تلك الأجواء الرائعة جداً، بين تلك الأشجار والفواكه الجميلة جداً، وهو مهيأ بشكلٍ فنيٍ رائعٍ جداً، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ}، متكئين وهم في غاية الراحة والنعم، ليس هناك ما ينغص عليهم تلك الأجواء.
{بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}، والثمار، ثمار الجنتين قريبة من متناولهم، يعد له الأماكن المناسبة التي يجلس فيها، ويمكنه اقتطاف تلك الثمار وتلك الفواكه، وتناولها وهي طازجة، وهو في ذلك الجو المريح والمبهج، يستمتع بأكل تلك الفواكه، وبالنظر إلى تلك المناظر الرائعة والخلابة والجميلة جداً.
من ثمار الجنة، من ثمار الجنة، ليست كفواكه الدنيا، فواكه الجنة لا تحتاج إلى تعب عليها، لا تحتاج إلى أن تحافظ عليها من الآفات والحشرات، بالمكافحات والمبيدات، لا تحتاج إلى حراسة، لا تحتاج إلى تعب، لا تحتاج إلى أي عناء، سليمة، وراقية جداً، ونظيفة، وسليمة من كل الآفات، لن تتسلط عليها حشرات معينة، أو ديدان معينة، أو أشياء معينة، لم تتأثر بأنه لحق بها ظمأ أو عطش؛ لأنه لا يلحق بها عطش أبداً، المياه متوفرة وتجري من تحتها باستمرار، في الدنيا قد تتأثر مزرعتك بفعل العطش، بقلة الماء، يؤثر هذا حتى على ثمارها؛ أما هناك فلا، لا تأثيرات بسبب عطش؛ لأنه لا يوجد عطش، ولا تأثيرات من حشرات، ولا آفات، ولا أي شيء أبداً، ولا تحتاج إلى أي تعب، خالصة من كل المنغصات والمتاعب، هذا لا يوجد في الدنيا لأي أحد، لا لملك، ولا لتاجر، ولا لأي أحد، أن يكون له نعيمٌ بهذا المستوى، نعيمٌ عجيب.
{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن: من الآية54]، قريب في متناولك، يمكنك أن تقتطف تلك الثمار وتأكل منها، وأنت في تلك الأجواء المبهجة والسعيدة.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: 55-56]، فيهن حور جميلات جداً، في غاية الجمال والروعة، ومع جمالهن الفائق جداً، يمتزن بميزةٍ عظيمةٍ ومهمة، هي أنها ستكون عاشقةً لك، لا تتطلع إلى أحدٍ غيرك أبداً، شغوفةً بك أنت، ومحبة لك أنت، ولا يهمها إلا أنت، ولا تركز إلا عليك، وهذا أمر مهم جداً، ذو أهمية كبيرة بالنسبة للإنسان، عندما يكون له زوجة بارعة الجمال، فائقة الجمال، ويكون مطمئناً أنها لا تتطلع إلى غيره، ولا تفكر في غيره، ولا تحاول أن تبرز جمالها أمام الآخرين، ليعرفوا بأنها جميلة، فهي إنما تقصُرُ طرفها ونظرها وتركيزها عليه فقط، هذا أمر مريح جداً، مع جمالها الفائق.
{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ}، لم يدخل بهن قبلهم إنسٌ، {وَلَا جَانٌّ} بالنسبة للحوريات الجنيات اللواتي للجن، للإنس حور، وللجن حورٍ جنيات تناسبهم.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن: 57-58]، في جمالهن البارع جداً، وفي تقاسيم الوجه، وفي جمال الوجه، تأتي هذه الألوان، اللون الأصلي واللون العام هو البياض، هو البياض، قال عنهن في آيةٍ أخرى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات: الآية49]، ويصفهن أيضاً في آياتٍ أخرى بشبههن في بياضهن باللؤلؤ، اللؤلؤ في بياضه الناصع النقي، فهو اللون العام، ولكن بالنسبة للوجه تأتي في تقاسيم الوجه هذه الألوان الإضافية على بياض الوجه، تأتي أيضاً الحمرة، التي تشبه حمرة الياقوت {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ}، حمرة وردية صافية، جميلة جداً على الوجنة، على وجنة الوجه، في مكان معين من الوجه، وتأتي أيضاً يأتي اللون الآخر المرجاني، عندما قال: {وَالْمَرْجَانُ}، أيضاً ضمن تقاسيم الوجه، وكأنه تحت العيون، وفي أصل خلقها، لا تحتاج إلى مكياج، ولا تحتاج إلى وسائل للتجميل، هذه الألوان، البياض الناصع جداً، الذي تكسوه حمرةٌ ورديةٌ، كحمرة الياقوت، ولونٌ مرجانيٌ قد يكون فيما تحت العين، من أصل خلقتها، وليس باستخدام وسيلة من وسائل التجميل.
في هذه الدنيا وبعد دهر طويل وصل البشر إلى استخدام المكياج على أساس التطور، وبدأوا باستخدامه، وتستخدمه النساء؛ من أجل أن تكسب نفسها المزيد من الجمال واللون المناسب؛ أما هناك فمن أصل الخلقة، من أصل خلقتها، وليس فقط إنما تستخدمه من وسائل تجميل معينة، فإذا ذهبت لتغسل وجهها، تغير كل شيء، جمال فائق جداً، جمال على مستوى راقٍ جداً.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[الرحمن: 59-60]، لأنهم أحسنوا في هذه الدنيا، وشكروا نعم الله "سبحانه وتعالى"، واستجابوا له الاستجابة الكاملة، فوصلوا إلى هذا النعيم، في نهاية المطاف تكون أحسنت لنفسك، عندما تحسن في هذه الدنيا، إحسانك هو لك أنت، هذه ثمرته، هذه نتيجته لك أنت، أرقى مستوى من النعيم، وتعيش في هذا النعيم بدون أي منغصات، لا هم، ولا مرض، في الدنيا قد يمتلك البعض ثروة معينة، إمكانيات معينة، فتأتي له منغصات أخرى، لا مشاكل، ولا هرم، مع طول الوقت، هو نعيمٌ للأبد، ليس نعيماً محدوداً لفترة مؤقتة، فقط، بل هو نعيمٌ أبديٌ، لا يأتي ما ينغصه، ولا مشاكل، ولا هرم، لا تقول أنك ستعاني من الشيخوخة، ومن أن تتحول إلى طاعنٍ في السن، ويؤثر عليك طول الوقت والزمان،لا، تبقى دائماً في صحة، وعافية، ونشاط، وشباب دائم؛ بدون هرم، ولا موت، ولا هم، ولا حزن، ليس هناك ما يحزنك، وليس هناك ما ينغصك، وليس هناك ما يؤذيك، وليس هناك ما يزعجك، ولن يأتي أحد لينازعك على مزرعتك تلك، على جنتك تلك، على بستانك ذلك، على حديقتك تلك، ولن يأتي لك أي همٍ ولا مشاكل، ومع ذلك التكريم، مع ذلك النعيم التكريم، أنت هناك شخصٌ مكرمٌ محترم، الملائكة تزورك، تتفقد أحوالك، ملائكة الله "سبحانه وتعالى"، أنت هناك تلتقي بالأنبياء والصديقين.
أنت هناك أيضاً تحظى بالاحترام والتكريم، وتشعر أنك في إطار رضوان الله، أن ذلك النعيم إنما هو من رضى الله عنك، وبالتالي تشعر بالارتياح الكبير، وتكون راضٍ عن نفسك، وعن عملك، وعن جهدك، وعمَّا أنت فيه، وعن ربك الله "سبحانه وتعالى".
كل أجواء التكريم حاضرة، هناك من يخدمك، الخدم، وهناك فيما أنت فيه من النعيم أيضاً كله فيه تكريم، حتى الطعام يقدم إليك في صحاف الذهب، ولا أي ملك في الدنيا، ولا أي تاجر في الدنيا، من كل ملوكها، ومن كل أغنيائها وتجارها، يمكن أن يحصل على أقل مستوى مما هو لأقل الناس في الجنة من النعم، أبداً، وهذا عرضٌ متاحٌ لك، هذا يعرضه الله، كل هذه التفاصيل يقدمها لنا هو يعرضها علينا: هل تريدون هذا؟ هل لكم في هذا النعيم؟ ما الذي يمنعك عن الاستجابة؟ ألا ينبغي أن تسارع؟ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[آل عمران: من الآية133]، هل هناك أحدٍ لديه مثل هذا العرض، حتى يؤثر عليك فتستجيب له ولا تستجيب لله "سبحانه وتعالى"، يعرض عليك هذا النعيم في حياةٍ أبدية لا نهاية لها، للدائم، للأبد، ويتجدد فيها النعيم، ويأتي فيها أشياء كثيرة من فضل الله الواسع، وليس فيها ملل، {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف: من الآية108]، حياة متجددة، ويتجدد فيها النعيم أفنان، وأصناف، وأنواع، هذا يعرضه الله علينا، ما الذي يمنعك عن الاستجابة لله "سبحانه وتعالى"؟ وليس هناك أي هموم، ولا أي غموم، ولا أي مشاكل، لا تسمع فيها لاغية، لا تسمع فيها حتى كلمة واحدة تجرح مشاعرك، أو تزعجك، أو تؤذيك، ليس هناك أي شيء يمكن أن ينغص عليك ذلك النعيم، هذا كله متاح، هذا مقدم أصلاً ومعروضٌ علينا، الله يدعونا إلى هذا النعيم، إلى هذه الحياة السعيدة، أليس من الخسران الرهيب ألَّا يستجيب الإنسان؟ بل أن تكون خسارته أكثر من ذلك، فوات هذا النعيم والدخول في النار، أين الأفضل لك: أن تطوف بين هذه الجنات، بين هذا النعيم، أو أن تطوف بين نيران جهنم وبين حميمها؟ اختر لنفسك.
نحن في هذا الشهر الكريم في فرصة كبيرة جداً لأن نتأمل في آيات الله "سبحانه وتعالى" وفي وعده ووعيده بما يرسخ لدينا التقوى.
نكتفي بهذا المقدار.
ونسأل الله أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
- يرجى تسجيل الدخول لإضافة تعليقات
- قرأت 310 مرات